شكّلَ شهر أغسطس/آب من العام الحالي الذكرى الثانية لتوقيع الوثيقة الدستورية، والتي وضعت حداً للصراع السياسي الحاد بين القوى السياسية المنضوية تحت إعلان الحرية والتغيير من جانب، والمجلس العسكري الانتقالي من الجانب الآخر، وأذنت ببداية مشروع الانتقال نحو حكم مدني، ديمقراطي يتسم بالحرية والسلام والعدالة.
وعلى الرغم من تغير النظام السياسي بصورة كلية، فإن ممارسة الحكم لم تراوح مكانها. فقد طغت مؤخراً على صدارة الأحداث السياسية في السودان، أخبار متفرقة تدور حول الاستغلال السيئ للسلطة والمال العام، وذلك عقب تسرب معلومات عن تورط مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية- وهي الذراع الحكومية لوزارة المعادن، وإحدى الشركات المملوكة للدولة- في إلزام شركات التعدين التي يشرف عليها بتوفير مبالغ مالية فورية للمساهمة في الاحتفال بتنصيب رئيس حركة تحرير السودان، والقيادي بالجبهة الثورية، السيد مني أركو مناوي، حاكماً لإقليم دارفور، وذلك تحت بند المسؤولية المجتمعية بالشركة.
الشاهد في الأمر أن حاكم إقليم دارفور قد اعتذر عن عدم تسلم الأموال عقب تصاعد حالة الغضب والاستنكار في مواقع التواصل الاجتماعي. ولكنه استنكر من جانبه الحملة المفرطة في حقه على الرغم من ضلوع الشركة نفسها في عدد من الممارسات المماثلة مع جهات أخرى داخل الدولة، وهو ما يعني ضمناً ولوغ الشركة في تجنيب المال العام بموافقة وعلم أجهزة الدولة.
تشكل هذه الحادثة، والتي مرت بدون مساءلة أو محاسبة واضحة، مؤشراً على غياب البنية المؤسسية اللازمة للسيطرة على الفساد، ممثلة في ضعف أنظمة الرقابة الداخلية بمؤسسات الدولة. على سبيل المثال، فإن شركة الموارد المعدنية نفسها قد منعت المراجعين المنتدبين من ديوان المراجع العام من دخول الشركة وممارسة سلطاتهم القانونية وفق ما ينص عليه قانون الديوان.
المؤسف هو تعامل القيادة السياسية للحكومة الانتقالية مع التعدي على المال العام، حيث لم يتجاوز الأمر التوبيخ الذي وجهه السيد رئيس الوزراء لمدير الشركة، وإلزامه بعدم تكرار مثل هذه الممارسات، وإرجاع التبرعات لأصحابها، وهو نهج يشبه، لحد بعيد، "فقه السترة والتحلل" الذي اشتهر به النظام السابق في السودان لتشجيع الفاسدين على إعادة الأموال المنهوبة مقابل العفو.
لقد مرت لجنة تفكيك تمكين النظام السابق، والتي نشأت بقانون خاص في العام 2019، بالاختبار ذاته فيما يتعلق بنزاهة عملها. فهذه اللجنة على أهمية الدور الذي تلعبه، تعاني من قصور ذاتي يدحض الدور الذي تقوم به في متابعة التجاوزات الإدارية والمالية لمنسوبي النظام السابق. فغياب آلية واضحة للمحاسبة للجنة تفكيك التمكين يجعلها أداة سياسية بامتياز، ويسهل استغلال منسوبيها للسلطة الموكلة لهم لتحقيق منافع خاصة. لقد أوقفت اللجنة مؤخراً عدداً من منسوبيها بدعاوى استغلال السلطة والكسب غير المشروع، حيث عثرت على مبالغ ضخمة في حساباتهم المصرفية تفوق ما قيمته مليونا دولار.
وعلى الرغم من أن الفساد قضية جوهرية في المشهد السياسي السوداني، كونه يؤثر سلباً على أهم قضايا الثورة السودانية المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة، فإن تعاطي السلطة السياسية معها لم يتجاوز محطة إجازة قانون مفوضية مكافحة الفساد، والذي بموجبه سيتم تكوين المفوضية المسؤولة عن طرح مشروع قانون مكافحة الفساد، ومن ثم وضع السياسات العامة اللازمة للسيطرة عليه.
ولكن وفق المشهد الحالي، والذي يتسم بهيمنة السلطة التنفيذية، وتمتعها بسلطات مطلقة غير مقيدة، يصعب التنبؤ باستقرار سياسي في السودان على المدى القريب، وذلك لأن الدولة تظل غنيمة في نظر القوى المتحكمة في المشهد السياسي، وليست وسيلة لإدارة وإعادة توزيع الموارد بصورة عادلة.
على الحكومة الانتقالية أن تعلم أن الخطوات الجادة للحد من الفساد تبدأ أولاً بالاعتراف به، وتحديد مكامنه، ومن ثم العمل مع جميع الشركاء، في المجتمع المدني والدولي، على إحكام السيطرة عليه عبر الإصلاح المؤسسي لجهاز الدولة، وعدم تغليب المعادلات السياسية على الجوانب الفنية والمهنية المطلوبة.
لقد فشلت السلطة الانتقالية- حتى الآن- في وضع قضية الفساد في واجهة المشهد السياسي، وتجاوزت مع سبق الإصرار والترصد عدداً من المعايير والسياسات المهمة للحد من الفساد السياسي واستغلال السلطة العامة لمنافع خاصة، بما في ذلك نظام إقرار الذمة المالية لذوي النفوذ السياسي، واللوائح المنظمة لتضارب المصالح، وقواعد السلوك الوظيفي للموظف العام، وإصلاح قوانين الشراء والتعاقد، ودعم المؤسسات الرقابية المستقلة، كديوان المراجع العام، وكذلك تكوين البرلمان والمجالس الولائية كإحدى أهم آليات نظام الضوابط والتوازنات في الدولة. والأهم من كل ما سبق، تفعيل الشفافية وحرية الحصول على المعلومة لضمان المشاركة الواسعة لمنظمات المجتمع المدني ومجموعات الضغط في تسليط الضوء على مواطن الفساد والدوائر المنتفعة منه.
وبالنظر لحال "تسييس مكافحة الفساد"، وتغليب التحالفات السياسية على قواعد المساءلة والمحاسبة في الدولة، ستظل قضية الانتقال الديمقراطي وسيادة حكم القانون شعارات براقة للمجتمع الدولي، لا علاقة لها بالواقع السياسي الحالي. لقد ذكر جيمس ماديسون، الرئيس الأسبق والأب الروحي للدستور الأمريكي "أن الحقيقة هي أنه يجب عدم الثقة المطلقة في رجال السلطة". وهذه المقولة تتسق مع حقيقة أخرى، وهي أن تغير السلطة السياسية لا يعني بالأساس تغيير ممارسة الحكم. واللبيب بالإشارة يفهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.