يوافق تاريخ الأول من سبتمبر/أيلول من كل سنة، ذكرى وفاة أحد بايات تونس من العائلة الحسينية، "المنصف باي" أو سيدي المنصف باي، كما يحلو للتونسيين تسميته.
ولم تكن إضافة كلمة "سِيدي"ـ وهي تنطق بدون تشديد على حرف الياء الثاني في الكلمة في اللهجة العامية التونسية ـ ويقصد بها علو المقام، إلا في إطار من الحب والتبجيل الذي يكنه أغلب التونسيين لهذا الباي.
فغالباً ما ينادى بسيدي إذا ما جاء ذكره وهو المتوفى سنة 1948.
وُلد المنصف باي يوم 4 مارس/آذار 1881، ووالده هو محمد الناصر باي. لم يكن المنصف مرشحاً لولاية العهد أو للحكم، لكن شاءت الأقدار أن يتوفى ثلاثة من أولياء العهد بين عامي 1939 و1942، ليؤول له حكم تونس.
فاعتلى العرش الحسيني يوم 19 يونيو/حزيران من نفس السنة، خلفاً لابن عمه أحمد باي، واستمر في الحكم أحد عشر شهراً فقط؛ حيث عزله المحتل الفرنسي في مايو/أيار 1943.
حياته قبل الحكم
تلقى- مَن سيصبح حبيب الشعب فيما بعد- تعليمَه في المعهد الصادقي، وخلال فترة دراسته بالصادقية، استرعى المنصف باي انتباه أساتذته وأقرانه لحسن سلوكه وإقباله على طلب العلم، فرغم كونه ابن البايات عرف في المعهد بتواضعه وعدم تكبره والتصاقه بأبناء الشعب الذين يدرسون هناك.
سنة 1906 عين الناصر باي، المنصف باي وهو في عامه الـ25 مستشاراً خاصاً له وأمين سره بصفته أكبر أبنائه، وذلك بعد اعتلائه العرش، وفي تلك الفترة أصبح المنصف يمثل والده في المواكب والحفلات الرسمية.
اشتهر المنصف باي قبل توليه عرش تونس، بالدور السياسي المهم الذي كان يؤديه، فقد عُرف عنه مساندته لأعضاء الحزب الحر الدستوري منذ تأسيسه في مارس/آذار سنة 1920.
وبسبب هذه المساندة دفع المنصف باي والده لاستقبال وفد الأربعين الممثل للحزب الحر الدستوري التونسي، الذي زار الباي يوم 18 يونيو/حزيران 1920 برئاسة الشيخ الصادق النيفر، حيث قدم إلى الباي عريضة تطالب بضرورة إقرار دستور للبلاد التونسية. وهذا الأمر هو ما جعل سلطات الاحتلال تطالب الباي بإبعاد أبنائه عن الحكم.
وعقب وفاة والده الناصر باي في 10 يوليو/تموز 1922 اعتزل المنصف باي السياسة وابتعد عنها.
كرسي العرش
صعد المنصف لعرش تونس في ظل الحرب العالمية الثانية، وفي ظل مجموعة من الهزائم تلقتها القوات الفرنسية أمام الألمان، خلق هذا الواقع العالمي الجديد شعوراً بأن فرنسا أصبحت غير قادرة على حماية مصالحها داخل المستعمرات؛ بعد أن عجزت حتى عن حماية نفسها. ومما زاد في تقوية هذه الفكرة أن قوات المحور ما لبثت أن حلت بالبلاد التونسية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1942، أي بعد بضعة أشهر من تولي المنصف باي.
في ديسمبر/كانون الأول 1942 استغل المنصف باي لقاءه السفير الألماني بتونس وطلب منه التدخل لإطلاق سراح زعماء الحزب الدستوري الجديد القابعين بالسجن وعلى رأسهم آنذاك الحبيب بورقيبة، ثم استقبلهم رسمياً بعد الإفراج عنهم.
لكن أهم صدام بين المنصف باي والفرنسيين خلال فترة حكمه كان قبل دخول الألمان لتونس، حيث أرسل الباي التونسي مذكرة للحكومة الفرنسية في 8 أغسطس/أوت 1942، تضمنت 16 نقطة من أهمها:
– العمل على تطبيق مبادئ التعاون بين فرنسا وتونس، تلك المبادئ التي أعلنت على رؤوس الإشهاد في العديد من المناسبات، تطبيقاً نزيهاً وبدون تردد والتي ضُمنت في نصوص خاب أمل التونسيين في تنفيذها.
– المساواة في المرتبات والأجور بين الموظفين التونسيين والفرنسيين.
– مشاركة التونسيين في مراقبة مداخيل ومصاريف الميزانية.
– إلغاء مرسوم 1898 المتعلق بأراضي الأوقاف وحذف كل العقبات التي تمنع التونسيين من امتلاك أراضٍ ريفية.
– مشاركة السكان التونسيين بصورة فعلية وفي حدود عادلة في الحياة البلدية.
– جعل التعليم إجبارياً بالنسبة لجميع التونسيين مع تدريس اللغة العربية في كل المدارس.
لكن هذا الصِّدام مع سلطات الاحتلال لم يقف عند هذه المذكرة بل تجاوزها إلى قيام المنصف باي بتسمية حكومة جديدة في 1 يناير/كانون الثاني 1943 دون استشارة السلطات الفرنسية، وكان على رأسها محمد شنيق وفيها وزراء من رموز الحركة.
كذلك اشتهر عنه موقفه الرافض للإجراءات العنصرية التي أرادت الإقامة العامة الفرنسية فرضها على اليهود التونسيين، بوضع نجمة صفراء لتمييزهم عن بقية السكان، فما كان منه إلا أن أجاب بأن اليهود مثلهم مثل كلّ المواطنين التونسيين المسلمين.
كل هذا دفع فرنسا إلى عزل وخلع الباي الذي أحبه كل التونسيين.
عزله
في 14 من مايو/أيار سنة 1943، خُلع المنصف باي بمقتضى قرار صادر عن الجنرال جيرو القائد الأعلى للجيوش الفرنسية لشمال إفريقيا وعوض بولي عهده محمد الأمين باي وكانت التهمة التي وُجهت له هي التعاون مع الألمان، ونقل في ذلك اليوم إلى مدينة الأغواط بالجنوب الجزائري؛ حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية. ثم أجبر في 6 يونيو/حزيران من نفس السنة على توقيع وثيقة تنازله عن الحكم ليتم نقله بعدها إلى مدينة تنس الواقعة على الساحل الجزائري، وإثر خروج الألمان من فرنسا سنة 1945، نُقل إلى مدينة "بو" بالجنوب الفرنسي، وبقي فيها تحت الإقامة الجبرية إلى حين وفاته بداية شهر سبتمبر/أيلول 1948.
وأعيد جثمانه إلى تونس ليدفن يوم 5 سبتمبر/أيلول، بوصية منه وعلى خلاف غيره من البايات بمقبرة الجلاز، حيث يوجد قبره هناك إلى الآن.
شارك في تشييع جثمان سيدي المنصف باي عشرات الآلاف من التونسيين؛ مما يؤكد حب وتعلق التونسيين بالباي، الذي كان في الوقت ذاته ابنهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.