لا يبدو الوقت في صالح الرئيس التونسي قيس سعيّد، فمع كل يوم يمرّ دون إعلانه عن خارطة طريق وتعيينه لرئيس وزراء وتشكيل حكومة تتقلص مساحة المساندين له، خاصة في ظل المؤشرات التي تثير المخاوف من طيّ صفحة الحقوق والحريات التي تمتع بها التونسيون بعد سقوط نظام بن علي سنة 2011.
منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو/تموز عن جملة من الإجراءات الاستثنائية لمدة شهر قابلة للتمديد، أهمها إقالة رئيس الحكومة وتعليق نشاط البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، كانت ردّة فعل أغلب الحساسيات السياسية والمدنية المساندة لسعيّد مطالبته بالإسراع بتشكيل حكومة وتوضيح المسار الذي ستتجه نحوه البلاد، خاصة في ظل الحديث عن تعديل الدستور والنظام السياسي في البلاد مع تحديد سقف زمني في إطار خارطة طريق يُعلنها الرئيس ويلتزم بها، وهو الذي يدير ظهره للجميع في تونس تقريباً.
ليجيب قيس سعيّد خلال أيام معدودة قبل انتهاء مدة الشهر على مطلبي تشكيل حكومة وإعلان خارطة طريق، من خلال أحد الفيديوهات التي نشرتها رئاسة الجمهورية في تونس في إطار تغطية زياراته الميدانية، بالقول: "يتحدثون عن خارطة الطريق؛ هذه المفاهيم التي تأتينا من الخارج، من يتحدث عن الخرائط ليذهب إلى كتب الجغرافيا، الطريق الوحيدة التي أسلكها والتي سأسلكها بنفس الثبات هي الطريق التي خطها الشعب التونسي.. أيهما أفضل غياب الدولة أم غياب الحكومة لمدة قصيرة حتى تعود الأوضاع كما يتمناها الشعب التونسي؟".
إلا أن إجابته الصادمة كانت بعد انتهاء مدة الشهر، الأولى، لإدارة البلاد وفق الإجراءات الاستثنائية، بإعلان الرئيس قيّس سعيد أن التمديد فيها سيكون إلى "حين إشعار آخر"، ليحبس الجميع في تونس أنفاسهم من دخول البلاد في نفق إجراءات استثنائية غامضة غير مُحدّد بالمدّة ودون حكومة تنطلق في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والصحية، بعيداً عما يعتبره العديد في تونس محاولات سعيد التغطية على الفراغ الحكومي لأكثر من شهر، عبر الترويج لنفسه كمنقذ لتونس من أزمتها عموماً ومن الفساد بصفة خاصة.
فالرئيس التونسي عمل طيلة الفترة التي تلت إعلانه عن إقالة رئيس الحكومة وتعليق نشاط البرلمان، على إظهار نفسه كقائد حرب ضدّ الفساد المستشري في البلاد؛ عبر قيامه شخصيّاً بزيارات أقرب منها إلى مداهمات لمخازن ومستودعات لمواد مفقودة من السوق، وإلقاء خطابات تبثّها الرئاسة التونسية ويتوعد من خلالها المحتكرين والمضاربين بالانتقام منهم بالقانون، فيما يعرف الجميع في تونس تقريباً أن التشريعات والتراخيص الحصرية لا يُمكن أن تؤدي إلا إلى الاحتكار، وفي حال كان سعيد صادقاً في محاربته الفساد والاحتكار، فما عليه إلا تغيير التشريعات.
ضغط وتخوف من المؤسسات المالية
مع كل يوم يمرّ بعد 25 يوليو/تموز دون إعلان خارطة طريق وتعيين رئيس وزراء وتشكيل حكومة، يخسر الرئيس التونسي نقاطاً ومساندين له من عموم التونسيين والأحزاب السياسية والمنظمات القوية كالاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أن الضغط الأكبر على سعيد هو الخارج وتحديداً المؤسسات المالية المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في وقت تعرف فيه البلاد أسوأ أزمة مالية في تاريخها زادت من حدّتها جائحة كوفيد 19.
فبالنسبة للمؤسسات المالية المانحة يجب على سعيد الإسراع بتشكيل حكومة تكون الجهة المقابلة لها لمواصلة التفاوض معها، خاصة فيما يُعرف بملفّ الإصلاحات الكبرى التي تشترط المؤسسات المالية المانحة على تونس تنفيذها لمواصلة تمكينها من الدعم المالي وحتى لاستكمال صرف أقساط من قرض ضخم يبلغ حوالي 2.9 مليار دولار، منحه صندوق النقد الدولي، مقابل تعهد بالقيام بإصلاحات هيكلية جذرية تشمل أساساً تسريح آلاف موظفي القطاع العام لتخفيض كتلة الأجور وإصلاح الصناديق الاجتماعية لإيقاف استنزاف توازناتها المالية، وغيرها من الإصلاحات التي تفرضها المؤسسات المالية على الدول التي تقترض منها.
لكن في ظل غياب حكومة تقود جهازاً تنفيذياً يعمل على مواصلة تطبيق الإصلاحات الهيكلية في تونس فإن المؤسسات المالية المانحة لا تبدو متحمسة لدعم البلاد ماليّاً؛ مما جعلها تطالب الرئيس قيس سعيّد نفسه بالإسراع بتشكيل الحكومة، فمثلاً لم يُبدِ نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فريد بالحاج أي حرج بعد لقائه بسعيّد يوم الثلاثاء 31 أغسطس/آب 2021 من التأكيد أن مساعدة البنك الدولي لتونس رهينة الإصلاحات.
بل ذهب المسؤول السامي في أهم المؤسسات المالية المانحة في العالم إلى الحديث في وسائل الإعلام عن ضرورة توضيح الرؤية في تونس خاصة عبر تشكيل حكومة اقتصادية، وهو ما ترجمه مراقبون على أنه توجس وتخوّف من شركاء تونس الماليين من تمديد الرئيس قيس سعيد لإدارة البلاد وفق إجراءات استثنائية ودون حكومة إلى أجل غير مسمى أو إلى حين إشعار آخر، كما أورد سعيد في بلاغ التمديد.
تخوف من انتهاكات الحقوق والحريات
التمديد في العمل بالإجراءات الاستثنائية إلى حين إشعار آخر في مقابل المطالب بتشكيل حكومة والإعلان عن خارطة طريق، زاد مخاوف الأوساط السياسية والحقوقية في تونس من تصاعد الانتهاكات التي شملت الحقوق والحريات؛ بداية من حرية التنقل التي أصبحت مقيدة بفرض الإقامة الجبرية على عديد من الشخصيات السياسية والقضائية ورجال أعمال ونواب دون قرار قضائي مصحوب بمؤيدات كما يفرض القانون.
خروقات وانتهاكات الحقّ الدستوري في التنقل لم تقتصر على اعتماد الإقامة الجبرية بقرار إداري، بل شملت منع العشرات من السفر دون إعلامهم مسبقاً ودون قرار قضائي، وكذلك حيث لم يمرّ يوم تقريباً في تونس منذ يوم 25 يوليو/تموز دون إعلان أحد رجال الأعمال أو النواب أو القضاة أنه تم منعه من السفر او إخضاعه لإجراء المراقبة الحدودية قبل السماح له بمغادرة البلاد، وهو ما يُؤدي في أغلب الحالات إلى التأخر عن موعد الطائرة إن لم يكن المنع من السفر.
لكن الخطوة الأخطر التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيد، وصنفها مراقبون كمقياس لمدى التزامه واحترامه للمواثيق والمعاهدات الدولية، هي تسليمه للاجئ السياسي والحقوقي الجزائري سليمان بوحفص إلى السلطات الجزائرية، رغم أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين منحته صفة لاجئ في تونس منذ سبتمبر/أيلول 2020، مما جعل سعيد في مرمى السواد الأعظم من المنظمات في تونس التي لم تعُد تُخفي مخاوفها من مستقبل الحقوق والحريات في تونس رغم التطمينات التي يطلقها سعيد يميناً وشمالاً.
فمثلاً أعلنت نقابة الصحفيين في تونس منذ بداية الأسبوع أنها سجلت العديد من الانتهاكات لحرية الصحافة والإعلام من خلال التضييق على عمل الصحفيين وتدخل بعض المسؤولين لتوجيه الصحفيين لخدمة الرأي الواحد، والتدخل في اختيار المواضيع وطريقة طرحها؛ وهو مؤشر خطير وانتكاسة للمكسب الوحيد لثورة الحرية والكرامة وهو حرية التعبير، داعية رئاسة الجمهورية لاحترام حرية الصحافة والإعلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.