شغلت قضية تحول شخص أفغاني اسمه عبد الرحمن إلى المسيحية الرأي العام الأفغاني والعالمي عام 2006، وبعد ضغوط دولية على جميع المستويات نجا "المرتد عن الإسلام" من حكم بالإعدام كان ينتظره وفق القانون الأفغاني، وذلك بالإفراج عنه بناءً على تقرير طبي قدم للمحكمة وأفاد بعدم اتزان المتهم عقلياً، وانتهى به المطاف لاجئاً سياسياً في إيطاليا.
اعتبرت تلك القضية من وجهة نظر غربية أول طعنة علنية في المبادئ التي ترعاها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان الجديدة، إذ أظهرت أن الحكم الفصل ما زال للشريعة الإسلامية، وأن الغالبية الساحقة من الشعب الأفغاني على قناعة بأن عبد الرحمن مذنب لتبديل دينه ويستحق العقوبة.
وتسببت محاكمة عبد الرحمن بحرج كبير لحكومة الرئيس حامد كرزاي، حيث وجد نفسه في ورطة بين شعب متضامن مع قضاء صارم بما يتعلق بالدين وبين ضغوط حلفائه في حلف شمال الأطلسي الذين تواصلوا معه مجتمعين وفرادى لفرض احترام المعايير الغربية في حرية تبديل الدين.
لعل تلك القضية كانت أول مؤشر واضح على بداية إخفاق المشروع الغربي في أفغانستان، والذي يفترض أن يبدأ بانفتاح ليبرالي وضمان الحريات العامة، ذلك أنها كانت أهم مبررات الغزو والإطاحة بنظام طالبان.
دستور طالبان
كان واضحاً أن الولايات المتحدة أدركت صعوبة فرض قيمها ليس فقط على الشعب الأفغاني، بل كذلك على النظام الذي تعهدت ببنائه، وما يشير إلى ذلك الإخفاق حوار قصير بين سياسي أفغاني والسفير الأمريكي في كابل رونالد نيومان، جرى في حفل وداعه مع نهاية خدمته في نيسان/أبريل عام 2007.
فقد سألت شخصية أفغانية نيومان على هامش الحفل وبدون تكلف عن أهم إنجازات الولايات المتحدة وحلفائها خلال السنوات الخمس الأولى من الإطاحة بنظام طالبان، فرد بتعبيد أكثر من 1200 كلم من الطرق، وبناء مئات من المدارس وغيرها من جهود البنية التحتية.
لكن السياسي الأفغاني عقب على السفير بعدم ذكره إقرار دستور جديد وتدشين الديمقراطية وبرلمان منتخب وغيرها من قيم الديمقراطية التي روجت لها الولايات المتحدة عند تدخلها في أفغانستان، فرد السفير بانفعال: أي ديمقراطية وأي دستور؟ لقد أقمنا برلماناً لزعماء الحرب ووضعنا دستوراً يحكّم الشريعة ولا يسمح لمواطن بتغيير معتقده كما حدث لعبد الرحمن، إنه أشبه بدستور طالبان.
لم يكن لطالبان علاقة بقضية عبدالرحمن وإن كان القضاة متمسكين بالحكم وفق النصوص الشرعية من القرآن والسنة على المذهب الحنفي المعمول به في البلاد، ولكن بعد عام وقعت حادثة هزت العالم بأسره، وهي اختطاف مسلحي طالبان 26 مبشراً للمسيحية من كوريا الجنوبية أثناء توجههم من كابول إلى قندهار في الجنوب.
وشكلت حادثة اختطاف المبشرين الكوريين والنهاية المأساوية لثلاثة منهم فضيحة لقوات التحالف والحكومة الأفغانية على حد سواء، ولم تنتهِ الأزمة إلا بعد إعدام الخاطفين ثلاثة رهائن كوريين، والتوصل إلى صفقة رضخ الكوريون بموجبها لشروط طالبان وهي: دفع مليون دولار فدية لكل رهينة وانسحاب القوات الكورية وتعهد دول الناتو بعدم السماح بإرسال مبشرين إلى أفغانستان مقابل إطلاق سراح باقي المختطَفين الكوريين.
وطويت صفحة التبشير العلني في أفغانستان بإجماع المجتمع الأفغاني وفعل طالبان المسلح، وذلك بالرغم من انتشار آلاف المؤسسات الغربية ومؤسسات المجتمع المدني الممولة من الغرب التي تتبنى ثقافته وتروج لقيمه.
المرأة والتمكين
لقد أخفق "المجتمع الدولي" في تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع الأفغاني، وأحد الشواهد على ذلك أن التحدي كان واضحاً وضخماً بين قادة دول الناتو والمؤسسات الغربية من جهة، والمجتمع الأفغاني وحكومة الرئيس كرزاي من جهة أخرى، حيث مارس الأوروبيون والأمريكيون ضغوطاً هائلة على الحكومة والبرلمان الأفغانيين لإلغاء بعض البنود من قانون الأسرة الشيعي قبل أن يقر عام 2009.
فمن وجهة النظر الغربية، تشرع المادة 132 من قانون الأسرة الشيعي "اغتصاب الزوج لزوجته"، وانتقد الغربيون القانون برمته لمنحه سلطات للرجل على المرأة، وهو ما يعتبرونها اضطهاداً للمرأة، مثل تقييد خروج الزوجة من المنزل بدون إذن الزوج باستثناء احتياجات محددة نص عليها القانون، وقد أعدت مسودة القانون من قبل رجال الدين الشيعة، على رأسهم آصف محسني رئيس جامعة آل البيت في كابل.
وبينما كان زعماء الغرب مشغولين بالاتصال بالقادة الأفغان ويشغلون معهم الرأي العام العالمي كان الأفغان يسخرون من كل هذه الضجة حول ما عرف بتفاصيل "تمكين المرأة لزوجها في الفراش"، ناهيك عن تمكين المرأة اقتصادياً وسياسياً، وقد حسمت التقاليد الأفغانية كل هذا الجدل الاجتماعي بالقانون أو بدونه.
النخبة والتغيير
روى لي أحد المسؤولين عن تنظيم مؤتمر لولاة الأقاليم الأفغانية (المحافظون) كيف تسببت هدية رمزية في نسف نتائج أسبوع من التدريب والمناقشات تركزت على التطوير الإداري للولايات الأفغانية الأربعة والثلاثين، وقد تفاجأ الولاة، الذين كانت خلفية بعضهم جهادية، أن الهدية قارورة خمر فاخر مغلفة بشكل جميل قدمها رعاة المؤتمر من حلف شمال الأطلسي "الناتو" للمشاركين، وخرج معظمهم من المؤتمر ساخطين تعلو وجوههم ردود فعل غاضبة.
لقد امتثل الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي للأعراف والتقاليد الأفغانية، فلم تظهر زوجته في أي محفل عام، وكان ذلك برأي أحد المقربين منه أحد أسباب نقمة الغرب عليه رغم أنهم هم من جاءوا به، ولكنهم رحلوا وبقي هو، رغم عدائه الطويل مع طالبان.
أما الرئيس أشرف غني فقد أدخل زوجته المسيحية "رولا" القصر الرئاسي، ومنحها لقب السيدة الأولى وتصدرت الحديث في المحافل العامة، وفي النهاية رافقته في رحلة الفرار الأخيرة، قبيل دخول قوات طالبان الأراك (القصر الجمهوري) للمرة الثانية وقبل أسبوعين من رحيل كافة القوات الأجنبية إلى خارج أفغانستان.
لقد حملت القوات الأمريكية والأطلسية معها شعارات الانفتاح والليبرالية لشعب شديد الحساسية لثقافته ودينه، وتجاهلت المثل الإنجليزي المعروف "يمكن اقتياد الحصان إلى النهر ولكن لا يمكن إجباره على الشرب"، فعادت تلك القوات بخمرها وبقي الأفغان يشربون لبن المخيض الأفغاني الوطني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.