يمكن التأريخ لبداية التدخل الرسمي العربي في الشأن الفلسطيني مع النداء الذي أصدره بعض الملوك والأمراء العرب في أواخر عام 1936، وخاطبوا فيه رئيس اللجنة العربية (وهي القيادة الرسمية للفلسطينيين حينها) وأبناء فلسطين، مطالبين إياهم بإنهاء الإضراب الشهير (طال ستة أشهر)، و"الإخلاد للسكنية حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل..".
وأكد النداء على تقديم المساعدة لشعب فلسطين.
أما فيما بعد، ولدى تأسيس جامعة الدول العربية، من سبع دول (مصر ـ السعودية ـ العراق – سوريا – لبنان – اليمن – الأردن)، في أربعينيات القرن الماضي، جرى تنازع على مسألة التمثيل الفلسطيني بين عديد من الدول المذكورة، من جهة، والأردن والعراق (المحور الهاشمي في حينه) من جهة أخرى.
وفي تلك المرحلة اضطلعت مصر (الملكية والوفدية وفي عهدي النحاس باشا والنقراشي باشا) بدور كبير للتأكيد على أهمية التمثيل الفلسطيني في هذه الجامعة، كما بالنسبة للملمة صفوف الفلسطينيين.
وهكذا، في مؤتمر القمة العربي الأول، الذي عقد بأنشاص في مصر (أيار/مايو 1945)، والذي جمع قادة الدول العربية، تزعمت مصر خط تشكيل هيئة تمثل الفلسطينيين وتنطق باسمهم. وبالفعل فقد تم الإعلان عن تشكيل "الهيئة العربية العليا"، في مؤتمر للجامعة العربية عقد في بلدة بلودان بسوريا (يونيو/حزيران 1946).
ويفيد ذلك بأن تلك الهيئة لم تتشكل نتيجة توافق الأحزاب الفلسطينية التي كانت سائدة حينها (العربي والدفاع والاستقلال والإصلاح والكتلة الوطنية والشباب)، وإنما نتيجة التدخلات والضغوط العربية، وضمنها أساساً المصرية؛ التي استطاعت وضع حد لخلافات الفلسطينيين، وانقسامهم (بعد ثورة 1936ـ1939)، بين الزعامتين الحسينية (نسبة للحاج أمين الحسيني زعيم "اللجنة العربية العليا" والحزب العربي)، والنشاشيبية (نسبة لراغب النشاشيبي زعيم "الجبهة العربية العليا" وحزب الدفاع).
أيضاً فإن الجامعة العربية وعلى لسان أمينها العام حينها (عبد الرحمن عزام) هي التي أعلنت الإدارة المدنية في فلسطين (تموز/يوليو 1948)؛ بغض النظر عن رضا القيادة الفلسطينية حينها (الهيئة العربية العليا). أما "حكومة عموم فلسطين"، فلم يكتب لها النجاح، بسبب الاختلاف بشأنها بين أطراف النظام العربي، وعدم تمكينها من القيام بمهامها في إقليمها (على الأقل في الضفة وقطاع غزة).
بعد كل ذلك، أي بعد النكبة، تم تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية (1964) بقرار من مؤتمر القمة العربية، وكانت مصر لعبت دوراً كبيراً في تشكيل لجنتها التنفيذية الأولى. وبعد استقالة الشقيري من رئاسة المنظمة إثر حرب حزيران/يونيو (1967) كان لمصر، وللمداخلات العربية دور كبير في التمهيد لصعود حركة فتح، بزعامة المرحوم ياسر عرفات، وقيادتها للمنظمة؛ وصولاً لاعتبار المنظمة بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط (1974).
الجدير ذكره في هذا المجال أن ثمة بنداً متضمناً في ملحق ميثاق جامعة الدول (1945) نص على أنه "في ظروف فلسطين الخاصة وإلى أن يتمتع هذا القطر بممارسة استقلاله فعلاً يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله". وهو ما تم تأكيده بقرار صادر عن الدورة الثالثة للجامعة (30/3/1946) الذي نص على أن "اختيار مندوبين عن فلسطين من حق المجلس وحده". وهذا يعني أن ثمة نوعاً من المرجعية في الوصاية على التمثيل الفلسطيني.
هكذا وبرغم أن قمة الرباط أكدت، كما قدمنا، أن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين، ما يعني كف التدخل في الشأن الداخلي لهم، فإن ذلك القرار الإشكالي بقي موضع تنافس وتجاذب وتصارع، بين القيادة الرسمية الفلسطينية خصوصاً، وبين بعض النظم العربية، كما بين أطراف النظام العربي.
يفترض ذلك من كل الفلسطينيين المعنيين إدراك، أولاً، محدودية استقلالية القرار الفلسطيني. وثانياً، تبيّن أزمة الكيانية والشرعية والوطنية الفلسطينية. ثالثاً، الانتباه إلى تعقيدات وصعوبات أية محاولة لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.
القصد أن ثمة عوامل عديدة يفترض ملاحظتها، وإيجاد حلول ناجعة لها، يتمثل أهمها في الآتي: 1) الغياب التاريخي للبعد الكياني/المؤسّسي عند الفلسطينيين. 2) إن أطراف النظام العربي، ومعظمها يعيش قلقاً كيانياً، سياسياً ومجتمعياً، غير مستعدة للتسليم تماماً باستقلالية القرار الفلسطيني. 3) تشظّي المجتمع الفلسطيني وخضوعه لأوضاع متفاوتة ومختلفة، وافتقاد الفلسطينيين لإقليم مستقل، ما يجعلهم عرضة لمداخلات وضغوط وتجاذبات متعددة. 4) دأب إسرائيل، باعتبارها تشكل تحدياً للوضع العربي، على تهميش الوضع الفلسطيني، وتغييب الشعب الفلسطيني وأية ممهدات كيانية له. 5) طبيعة النظام العربي، الذي يتّسم بالشخصانية، والمصالح السلطوية، والذي يفتقد للسياسة، باعتبارها عملاً يخصّ الشأن العام ومصالح المجتمع. 6) الخلافات والتجاذبات والتنافسات الفصائلية الفلسطينية. 7) الصراعات والتوظيفات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط.
هنا يمكن الاستنتاج أن النظام الرسمي العربي هو أحد أهم مصادر الشرعية للحركة الوطنية الفلسطينية، إن لم يكن أهمها؛ إذ يصعب على أي طرف من أطرافها التحرك، أو التطور، بمعزل عن حصوله على هذا النوع من الشرعية. وينبثق من ذلك إدراك دور البعد الفلسطيني في تقرير الخيارات السياسية، فخيار التسوية والتحرير والمفاوضة والمقاومة، وإعادة بناء المنظمة ليست مجرد خيار فلسطيني، على أهمية هذا البعد.
باختصار، فإن الشرعية والكيانية والوطنية الفلسطينية لم تعد تقتصر على احتضان أو قبول النظام الرسمي العربي، إذ أضحت بحاجة إلى شرعية أو رعاية دولية. بيد أن الأمر يتطلب قبل أي شيء أن يعرف الفلسطينيون قواعد اللعبة الجارية، ومحدودية قدراتهم وحدود دورهم فيها، وما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة أو تلك، تبعاً لم يريدونه، وتبعاً لما يقدرون عليه، في كل مرحلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.