بعد انهيار الجيش الأفغاني السريع أمام عناصر حركة طالبان الأقل عدداً وعدة، بدأ العالم يتساءل حول الأسباب التي أدت إلى ذلك الانهيار غير المتوقع من جهة، ومدى تداعياته على الدول المجاورة لأفغانستان، أو تلك التي تعاني مما عانه ويعانيه هذا البلد من آفة الإرهاب والفساد كالعراق وسوريا من جهة أخرى.
يتوقع الكثيرون أن العراق سيشهد انهياراً مماثلاً كالذي شهدته أفغانستان في حال انسحاب القوات الأمريكية منها، فالوضع في العراق ليس أفضل حالاً مما كانت عليه أفغانستان قبل انسحاب القوات الأجنبية منها، فالعراق ما زال يعاني من الإرهاب والفساد اللذين ينخران مؤسساته الأمنية والمدنية، وهما كفيلان بهدم أية دولة وسلبها سبل بقائها أمام المتغيرات السياسية والاقتصادية.
أسباب انهيار الجيش الأفغاني أمام عناصر حركة طالبان
لقد تمكّن مقاتلو حركة طالبان من اجتياح البلاد بسرعة مذهلة ودون أي قتال أو مقاومة تذكر، ما يدفع إلى التساؤل عن عوامل وخلفيات هذا التقهقر السريع للجيش الأفغاني وانهياره المفاجئ. لقد كان الجيش الأفغاني مجهزاً بالعديد من الأجهزة والمعدات والأسلحة العسكرية المتطورة، فمنذ بداية الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001 عقب اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر، أنفقت الولايات المتحدة 83 مليار دولار لبناء جيش يعكس صورة واشنطن ويحقق هدف العملية العسكرية في البلاد، مع التركيز بشكل كبير على الدعم الجوي وشبكة الاتصالات. قامت واشنطن بتزويد الحكومة الأفغانية بطائرات، مروحيات، طائرات مسيّرة، سيارات مدرعة ونظارات الرؤية الليلية إلا أن هذه الأسلحة والمعدات لم تحُل دون سقوط الحكومة الأفغانية وهروبها من كابول. (1)
لم يتوقف مسؤولو وزارة الدفاع الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة، عن التأكيد والتطمين بكون القوات الأفغانية (جيشاً وشرطة) والتي تضم أكثر من 300 ألف فرد، متفوقة على طالبان التي لا تحصي سوى 70 ألف مقاتل.
عزا الكثير من الخبراء العسكريين والأمنيين سقوط الجيش الأفغاني السريع أمام طالبان إلى تفشي الأمية في الجيش الأفغاني. أما آخرون فقد ذهبوا إلى أن الهروب من الالتحاق بالجيش الذي أدى إلى وجود ثغرات بشرية داخل الوحدات العسكرية، وفي هذا الصدد أشار تقرير "سيغار" إلى أن ظاهرة الهروب من الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الأفغاني كانت مشكلة مستمرة. أما المحللون الأمريكيون أنفسهم فقد ألقوا باللوم على الانسحاب السريع لقواتهم دون أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع تقدم طالبان نحو الاستيلاء على المدن الأفغانية.
لا شك أن الأمية والهروب من الخدمة العسكرية أو الانسحاب "المفاجئ" من ضمن الأسباب التي ساعدت على تدهور حالة الجيش الأفغاني أو بالأحرى عدم مقاومتهم للزحف الطالباني السريع إلا أنها بلا شك ليست من الأسباب الرئيسية لاختفاء أو انصهار جيش مجهز بالأجهزة متطورة وصرفت عليه مليارات الدولارات خلال 11 يوماً. أما التعلل بالأمية فليس دقيقاً لأن الأمية متفشية بصورة أكبر داخل صفوف وعناصر حركة طالبان والهروب من الخدمة كان يتم تلافيها (نسبياً) عن طريق تعيين منتسبين جُدد.
إن الانسحاب المفاجئ قد يقلل من حافز التعبئة لدى الجيوش المتحالفة إلا أنه حتماً لن يكون سبباً في انهيارها واختفائها خلال أيام معدودة.
إن السبب الرئيسي الذي أدى إلى هذه الكارثة هو الفساد المستشري في الحكومة الأفغانية بصورة عامة ومنظومته الأمنية بصورة خاصة (الجيش والشرطة). والاستغلال المنظم من قبل حركة طالبان لهذا الأمر وتوظيفه لصالحها. فقد نشرت الحكومة الأمريكية على مدار أعوام تقارير مفصلة عن حجم الفساد المستشري داخل صفوف قوات الأمن الأفغانية، وكيف كان القادة يقدمون بشكل منتظم على نهب الأموال المخصصة لقواتهم، وقيامهم حتى ببيع الأسلحة في السوق السوداء، وأيضاً الكذب فيما يتعلق بعديد الجنود داخل الوحدات العسكرية.
لقد قفز عدد الجنود الأفغان من 6 آلاف قبل الغزو الأمريكي، وعدم وجود قوات الشرطة سنة 2003 إلى 182 ألف جندي و118 ألف رجل شرطة خلال العام الماضي، ما يعني أن 300 ألف جندي وعنصر شرطة كانوا منتشرين في مختلف الولايات قبل الاجتياح الطالباني. ولكن هذه الأعداد تصطدم بحقيقة تتكشف تدريجياً، وهي ظاهرة "الجنود الأشباح" التي طالما حذرت منها تقارير مؤسسات رقابية أمريكية، إذ كان يتم تسجيل جنود ورجال شرطة وهميين من أجل الحصول على أجورهم، كما تكشف هذه التقارير أنه كان هناك شك حقيقي يحوم حول البيانات العسكرية التي كانت تقدّم عن القوة الفعلية للجيش الأفغاني وقدرته على القتال.
إن ظاهرة (الجنود الأشباح) في أفغانستان تشبه ظاهرة (الجنود الفضائيين) في العراق التي تتسبب في سلبيات تؤثر على سير عمل المؤسسة العسكرية، وتؤدي إلى خلل في تأدية واجباتها واختراقها من قبل التنظيمات الإرهابية، وبالتالي إخفاقها في الوصول للهدف المنشود.
الجنود الأشباح هو مصطلح يطلق على جنود وهميين معينين لوحدات عسكرية وتوجد أسماؤهم في السجلات الرسمية إلا أنهم غير متواجدين في تلك الوحدات، إما لأنهم متفقون مع بعض القادة العسكريين على أخذ جزء من رواتبهم مقابل عدم الالتزام بالدوام الكامل، أم أنه لا وجود لهم أصلاً، حيث يقوم بعض القادة العسكريون بجمع رواتب هؤلاء الجنود واستحصالها لحسابهم الخاص.
"الجنود الأشباح" كانوا السبب الرئيسي لانهيار الجيش والشرطة الأفغانية وهو السبب الواقعي والمقنع الذي يفسر سقوط عشرات المدن والأقاليم الأفغانية دون مقاومة أو إطلاق رصاصة واحدة ضد عناصر حركة طالبان.
كان الجيش الأفغاني يعاني من ظاهرة "الجنود الأشباح"، وهي ظاهرة تتوالد بسبب فساد القادة العسكريين العميق واضمحلال القيم العسكرية والروح الوطنية في نفوسهم وهي جعلت الجنود الأفغان (غير الأشباح) أن يتكلوا على القوات الأجنبية في المهام القتالية والتعبوية.
الحالة العراقية
هل الحالة العراقية تشبه الحالة الأفغانية، وهل الانسحاب الأمريكي من العراق سوف يؤدي إلى انهيار جيشها وقواتها الأمنية أمام التنظيمات المسلحة كما حدث في أفغانستان؟
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة وجب أن نقف على مفردات التشابه والاختلاف في الحالتين العراقية والأفغانية وأن نعرف ماهية وحجم هذه التشابهات والاختلافات. إن البلدين عانيا طويلاً من الغزو الأمريكي، وانتشار الميليشيات المسلحة، والعمليات الإرهابية، وما يزالان يرزحان تحت وطأة الفساد وتراخي قبضة الحكومات المركزية.
الجنود الفضائيون
أعتقد جازماً بأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق سينعكس سلباً على الأمن في العراق، وقد يحول العديد من محافظاته إلى لقمة سائغة للتنظيمات المتطرفة (السنية منها والشيعية). لقد سقطت مدن ومحافظات كبيرة مثل الموصل، صلاح الدين والأنبار، بيد داعش عام 2014 مع وجود قواعد عسكرية أمريكية ودعم دولي للحكومة العراقية، فكيف بالحال إذا انسحبت هذه القوات خلال شهر واحد كما فعلت في أفغانستان؟
إن ظاهرة (الجنود الأشباح) في أفغانستان تشبه ظاهرة (الجنود الفضائيين) في العراق التي تتسبب في سلبيات تؤثر على سير عمل المؤسسة العسكرية، وتؤدي إلى خلل في تأدية واجباتها واختراقها من قبل التنظيمات الإرهابية، وبالتالي إخفاقها في الوصول للهدف المنشود.
إن الانهيار الذي سوف يحدث في العراق في حال انسحاب القوات الأمريكية قد يختلف بعض الشيء عن تلك التي حدثت في أفغانستان إلا أنها قد تكون أكثر دموية وقد تؤدي إلى تقسيم فوضوي للبلد. إن هذا الانهيار سيكون انهياراً كلياً وجزئياً في نفس الوقت. الانهيار الكلي سيشمل المنظومة السياسية والأمنية بصورة عامة أما صفة الجزئية فسيكون بسيطرة داعش على بعض المدن والقصبات في مناطق غرب وشمال غرب البلاد من جهة وسيطرة المجاميع والميليشيات الموالية لإيران على وسط وجنوب العراق.
إن وجود فصائل وميليشيات مسلحة موالية لإيران في العراق لن يستطيع أن يمنع أية كارثة في حال انسحاب القوات الأمريكية، فحالة هذه الفصائل اختلفت كثيراً عن السابق وأصبحت متورطة في عمليات فساد واغتيال وترهيب المواطنين العراقيين، فضلاً عن أن الانتصارات التي حققتها في الأعوام السابقة ضد داعش ما كانت لتتحقق لولا الدعم الدولي (الغطاء الجوي لقوات التحالف) والإقليمي والتي أوعزت بإنشاء الكثير من الميليشيات لهدف استراتيجي، ألا وهو محاربة التواجد الأمريكي في العراق وليس لردع داعش فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.