يسود لدى الأوساط الرسمية ووسائلها الدعائية مع اقتراب موسم الانتخابات خطاب يحمل نبرة هجومية على المغاربة، يلقي باللوم عليهم وعلى اختياراتهم السابقة والمقبلة، محمّلين إياهم مسؤولية ما يرزحون تحته من ظلم ومن فقر ومن هشاشة، وذلك بسبب تزكيتهم- حسب ادعائهم- للفاشلين واللصوص والفاسدين في الانتخابات المختلفة التي يشاركون فيها.
الخطير في الموضوع هو استغلال بعض منابر الجمعة لتمرير هذا الخطاب المضلل، عبر إضفاء بُعد شرعي على الموقف من الانتخابات بتحويله إلى معصية، بحجة أنه يندرج في إطار كتمان الشهادة أو شهادة الزور، والحق في رأيي أن الأمر نقيض هذه الدعاية الموجهة، فالانخراط في العملية الانتخابية كله شهادة زور، سواء عبر الترشيح أو التصويت أو الترويج لها، لأنه شهادة على فعل غير متحقق على أرض الواقع.
فالمسؤولية لا تحسمها صناديق الاقتراع، والصلاحيات المحدودة التي تُعطى للمُنتخَبين مسيّجة ومرهونة برضا جهاز الدولة المخزنية التقليدي، وبسلطة المعينين عليهم، وفوق الجميع هناك المشاريع الملكية التي لا يملك أحد تغييرها أو تعديلها، والتي تتنافس النخب الحزبية في مباركتها، ولا تسأل بعد ذلك عن برامج الأحزاب وعن وعودها السخية للمواطنين، التي تتبخر فور تسلم المناصب والمسؤوليات.
المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، فحتى الهامش الضيق جداً المتاح لهم يتم هندسته مسبقاً عبر قوانين انتخابية تُصمم على مقاس السلطة التي تفرض إرادتها فوق الإرادة الشعبية، حيث تتسبب في بلقنة المشهد الحزبي، وفي عرقلة المساعي المحتملة لإحداث تحالفات قوية ومنسجمة، تُمكن من ضمان سير طبيعي للمجالس المنتخبة، هذا فضلاً عن التدخل السافر في الأحزاب، ما يُرسّخ تبعيتها المطلقة للمخزن، ذلك أن التجربة تؤكد أن هذه اللعبة صُممت لاحتواء النخب والتيارات المشاكسة، وإدخالهم إلى بيت الطاعة المخزني، خصوصاً أنها توفر لكل الداخلين إليها امتيازات مجزية تجعل لعابهم يسيل لها، الشيء الذي يجعل أي احتمال ولو بسيطاً بانفكاكها عن الطوق المخزني مجرد أضغاث أحلام.
لا جديد فيما سبق ذكره، فالقاصي والداني في المغرب يعرف تفاصيل اللعبة المخزنية، لكن المستغرب هو تلك الجرأة على المغاربة من خلال محاسبتهم على تبعات أمر لم يُعرض عليهم أصلاً، ولا ناقة لهم فيه ولا جمل، كما أن المثير أيضاً هو استقالة الدولة وأجهزتها الرقابية من مسؤولياتها، فعلى فرض أن المغاربة يدفعون بالفاسدين إلى المسؤوليات، أمَا كان ينبغي لها أن تحاسبهم على تجاوزات حملاتهم الانتخابية، وأن تفحص ذمتهم المالية بعد انتهاء مهامهم؟ بل وألا تسمح لهم من البداية بالترشح، لأن مكان الفاسد الطبيعي هو السجن؟
الواقع أن السلطة المخزنية تؤسس لعرف جديد ما، سبقها غيرها إليه، فما دام المُنتخَب قد تمكّن من ضمان منصبه فليصنع ما يحلو له، فذنب أي تجاوز يرتكبه في رقبة مَن صوّت له، كأن على من قاموا بإنجاحه أن يعلموا الغيب، ويعلموا مسبقاً ما ستؤول إليه ممارساته، وفي حالة اكتشاف فساد مرشحهم عليهم أن يصبروا إلى انتهاء ولايته، من أجل استبداله بمرشح غيره، يصنع بهم ما صنعه مرشحهم الأول وهكذا دواليك.
سلطة "عفا الله عما سلف" توفر بمثل هذه الممارسات مخرجاً آمناً لكل المُنتخَبين الذين يتقلدون مسؤولياتها الصورية، وتُكافئهم على أدوارهم التلميعية لها، وفي المقابل فإنها تضع المغاربة أمام خيار تعجيزي، لأنها تطلب منهم ألا يصوتوا إلا على من يستحق أصواتهم، لكنها تلومهم حين يرون عدم أهلية ممثلي أحزابها لتمثيلهم، فمن باب عدم كتمان الشهادة تفرض عليهم شهادة الزور.
غريب أمر هذه السلطة التي باتت تتقمص خطاب المعارضة وتزايد به على الشعب، وذلك بغاية التحرر من ثقل المسؤولية التي أخفقت في تحملها، غير أنها بأساليبها تلك تفضح زيف دعايتها حول دولة الحق والقانون، فلا يمكن لها أن تتلاعب بشعارات وبمبادئ لا تتسع حويصلتها لها دون أن تقع في تناقضات مثيرة للسخرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.