نبي العدم وهادم الأساطير الذي شرح “أزمة الوجود”.. من هو الفيلسوف إميل سيوران؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/31 الساعة 13:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/31 الساعة 13:02 بتوقيت غرينتش

من بين أشهر الفلاسفة على مر العصور وُلد في 8 أبريل/نيسان عام 1911 في قرية "رازيناري" برومانيا، نبي العدم كما يُلقب، "إميل سيوران". يُعد سيوران أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين. ينبع سر تفرده من كونه أحد أشهر الداعين للبحث عن حقيقة كل شيء. ساعياً لهدم ما يعتبره الآخرون حقيقة راسخة في أذهانهم. لم تتوقف محاولاته عند نقد الأعمال الفلسفية أو الأدبية، بل شملت العديد من رجال السياسة والدين، بل إنه لم يتأخر عن نقد الأديان كلها معتبراً أنها نصوص رائجة للسيطرة على الناس بدلاً من مساعدتهم في الحياة.

في كتابه "تمارين في الإعجاب" الصادر حديثاً عن دار "منشورات الجمل" قرر سيوران أن يحمل مطرقته ليُهشم بها ما لا يحلو له، مستعيناً في ذلك بعقله وثقافته وسنوات حياته العديدة التي كون خلالها أفكاره حول النقد الأدبي ومذهبه الفلسفي الذي يشرح أزمة الوجود ومعاناة الإنسان في عالم رحب لا ينعم فيه بالهدوء والراحة إلا الجاهلون، أما الباحثون دائماً عن معنی أو قيمة الحياة فهم لا يتوصلون في النهاية إلا لحقيقة واحدة وهي أن هذا العالم يدفعنا للسأم.

في الفكر الرجعي

في مقالة حملت نفس العنوان تمت كتابتها عام "1957" لمواجهة أفكار "جوزيف دو ميستر" التي لاقت رواجاً واسعاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث وُلد ميستر في "1753" وتوفی في "1821" عمد سيوران لنقد الأفكار الرجعية التي دافع عنها ميستر بضراوة على مدار حياته، وبلا هوادة راح يفرد أسبابه التي دفعته لذلك النقد شديد الصرامة؛ لأن ميستر كان -في رأي سيوران- مثالاً سيئاً للفيلسوف والأديب في آن واحد.

كان ميستر مثالاً سيئاً لليميني المتطرف، ككيانٍ كامل ومؤسسة شاملة عمد علی تبرير أعمال الدكتاتورية والعنف في كل مكان سابغاً أقواله بالنصوص الدينية التي كان بارعاً في ليّ عنقها لتناسب مواقفه. في 75 صفحة كاملة لم يتوقف سيوران عن هدم أفكار ميستر، والتي لم تكن لتصمد أكثر من عمره إلا بسبب براعة ميستر في الخطابة واستخدامه الدين كمبرر لمحاكم التفتيش أو قمع الثورات والوقوف ضد إرادة الشعوب مبرهناً علی وجود العلة في الناس لعدم قدرتهم علی استيعاب الكتب السماوية المسيحية أو اليهودية، والتي في رأيه أنها تحمل الخلاص والسكينة لروح معتنقيها، وأن كل محاولة للتطوير أو كل دعوة للتخلي عن رؤية الدين بكونه نصاً إلهياً لا يجب أن يخضع للعقل أو النقد هي محاولة لنشر الشر.

ينتقد سيوران الثيولوجيا بما أنها المذهب الذي انطلق منه ميستر لتبرير أفعاله. الثيولوجيا هي الاندفاع لتبرير كل شيء من منطلق إلهي. ويقوم سيوران بطرح سؤال هام: هل نحن مكبلون بالنصوص الدينية أم أحرار بها؟

بول فاليري: المنكوب المفهوم

بداية من هذه الجزئية سيتخلی سيوران عن قسوته علی الجميع، سيحاول أن يكتفي بالنقد لمشروعات الأدباء الآخرين الذين مر علی مشاريعهم الأدبية وعرفهم من خلالها، ليمنح نفسه صوتاً أقل حدة وأكثر التزاماً بمعايير النقد الأدبي وضوابطه.

يتحدث سيوران عن "بول فاليري" الكاتب والشاعر الفرنسي الذي رأی فيه سيوران مثالاً لا يُحتذی به من حيث التعريف بنفسه وكشف تفاصيل أعماله الأدبية وشرحها للجميع. يقول عنه سيوران: "هل كان اقتحامه سهلاً لهذه الدرجة؟ كلا بالتأكيد. لكنه غامر بتوفير تفاصيل أكثر مما يجب في شأنه وشأن عمله، كاشفاً عن نفسه، واشياً بها، متيحاً العديد من مفاتيحه".

هكذا يری سيوران فاليري رجلاً في حاجة دائمة لتعريف الجميع كيف كان قادراً علی إتمام عمل كامل بناءً علی فكرة.

هنري ميشو: الشغف بالشمولي

يتقاطع هذا الكتاب مع حياة سيوران نفسه بشكل كبير، لذلك تناول فيه مشاريع أدبية كان شاهداً علی نشأتها، وينتقد أفكاراً سبق له نقدها مع أصحابها ومن بينهم "هنري ميشو" الرسام والشاعر البلجيكي الفرنسي. يری سيوران أن صديقه الذي عانی في تجاربه مع المخدرات وهوسه بالتفاصيل كان مجنون كُلياً بالشغف تجاه الأمور التقنية المعقدة، الأفكار العلمية شديدة الثراء بالتفاصيل والدقة. ومن هذه النقطة شرع ميشو في تعريف أمثاله علی أنهم: مولودون في حالة تعب، كما جاء في عمله "في مواجهة الأقفال". 

يكتب سيوران عن هنري ميشو بحميمية شديدة، وبلا نبرة عصبية -عكس العادة- ويشرحه هو نفسه ويبسط مفاهيمه عن العالم، يقول عنه إن أزمته كانت في أنه يری أكثر من الجميع، ينفذ بعمق إلی كل الأشياء وكل القضايا ويستطيع أن يتحدث عن الأخبار اليومية ويضع تحليلات سياسية لا تخطئ رغم كونه شديد الانطواء، رغم أنه فنان وشاعر ليس معنياً بهذه القضايا من الأساس، ولكنه ينفذ بعمقٍ لكل شيء نتيجة فرادة شديدة.

سيوران وفوندان

لا يترك سيوران أي فرصة للحديث عن كُتّاب حقيقيين لم يمنحهم القدر ما يستحقونه، ولم يتمكنوا هم بأنفسهم من التحقق الأدبي بشكل كامل بسبب ظروفهم الخاصة أو ظروف العالم المحيط بهم، هنا كان علیه أن يكتب في عام "1978" عن "بنيامين فوندان" الفيلسوف اليهودي الذي قُتل في معسكر أوشفيتز عام 1944. يری فيه قدرة هائلة علی التشخيص الاستباقي وبصيرة نافذة حقاً، صداقتهم سمحت لسيوران معرفة مزايا هذا الكاتب السينمائي والمسرحي العديدة التي كان أبرزها قدرته علی رؤية ما يخفيه النص لا ما يشير يبرزه، استدراك ما كان ممكناً قوله وليس ما قيل.

سيوران وبورخيس: لعنة المعترف بهم

يری سيوران أن شعبوية ورواج ما يقدمه الفيلسوف عقوبة للفيلسوف نفسه، وأنه أن كان هناك من تم ظلمه بسبب الاعتراف بقيمته الأدبية والفلسفية وقيمة ما يكتبه فإنه بلا شك سيكون بورخيس. يراه سيوران فاتن، يضفي شيئاً غير محسوس علی أي موضوع. رؤية سيوران لبورخيس تتخلص في الفضول الذي يدفع الأخير للتحرك دائماً، عدم السكون والترحال والتنقل الدائم بين الحضارات والآداب، روح المغامرة الموجودة في داخل هذا الأرجنتيني المؤثر رغماً عنه في الكون كله. يری سيوران المولود في قرية جزءاً من قرية أخری تابعة لمدينة تابعة لدولة صغيرة أن أرجنتينية خورخي لويس بورخيس هي التي دفعته للانفجار لكي يتحرر من اللاتينية الخانقة التي تحاصره، وأن العدم الذي يغرق فيه مكانه المنذور للنسيان هو ما دفعه لإعمال عقله والتفكير في النقد والترجمة وكتابة القصة والرواية. سيوران الأكثر كآبة في فلسفته كان يری أجمل ما في بورخيس هو رهافته التي كانت تطغی علی كل شيء يتناوله.

فيتزجيرالد: نعمة البصيرة

هنا يمنح سيوران نفسه مجالاً لشرح تجربة "فرنسيس سكوت فيتزجيرالد" مؤلف رواية غاتسبي العظيم وكتاب الانهيار. يری في تألمه من الحياة ضريبة لا مفر من دفعها لبلوغ أقصی درجات تعزية الذات، وأنه لولا هذا الألم الكبير لحُكم عليه بالنسيان أو توقفنا نحن علی ذكره كروائي مميز وليس ممثلاً للجيل الضائع بأكمله. أدرك فيتزجيرالد معنی الأشياء متأخراً، أو لنِقُل إنه أدرك عدم معناها حيث كل شيء يدركه لا يسبب له إلا العذابات، مرحلة المنتصف التي يعيش فيها كل متسائل في تخبُّط كبير، يعاني من الأرق والأسئلة التي لا إجابة لها. مهما بدت الإجابات متوفرة فإنها ستبقی مجرد حلول يمكن ألا تتوافق مع كل الحالات كما أنها حلول نظرية لا تُشفي من العلل، ولا يمكنها أن تنقذ أي شخص من حالة الأرق أو الرغبة العارمة في الموت في الرابعة صباحاً للتخلص من الأسئلة المتكررة. تجسدت أزمة فيتزجيرالد في نص الانهيار الذي أخرجه خلال عامي 1935 و1936 موضحاً للعالم ما الذي تغير فيه وما الذي تهدم بداخله. بخلاف أسئلته وتحولات حياته الكبری التي ساهمت في خلق حالة من الشيزوفرينا ساهمت في جعله فيلسوف وروائي كُلاً علی حدة فإن علاقته بزوجته ساهمت في جعله أكثر قدرة علی إدراك علته.

في آخر الكتاب يری سيوران أن الكتابة متنفس، وأنه حينما تشعر بمقت أي شخص بشدة فإن تسجيل هذا الشعور علی ورق يدفعك علی التوقف عن التفكير فيه. ربما لذلك أيضاً قام سيوران بكتابة هذا الكتاب أربع مرات باللغة الفرنسية ليخرج وكأنه كتاب لأحد سكان فرنسا الأصليين وليس كدخيلٍ عليها.

في الأخير يمكن القول إن الكتابة الحقيقية هي التي تعيش، الحقيقية بشكل كامل وليست المتحققة في زمانها تحظی بتمجيد أو احتفاء، الكتابة التي تناقش قضايا الإنسان نفسه وليست التي تتظاهر بهذا. الكتابة فعل حي قد يكون نتاجها أبدية لا نهاية له، ومهما طالها من نقدٍ أو مدح فإنها ستظل مطروحة ما دامت تتساءل عن قضايا الإنسان نفسه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد