كان أول صباح من صباحات إسطنبول مشرقاً وباسماً، المدينة لا تشبه سوداوية أورهان، وإن كان لدى حامل مجدها الأدبي وأول روائي باللغة التركية يفوز بجائزة نوبل للآداب عام 2006 ما يشفع له، بسبب اختلاف الأزمان والظروف والأفكار والأنظمة. في الصباح الباكر ذهبنا صوب شوارع نابضة برائحة الورود وناطقة بلغة الزهور، كنت أحاور المدينة وأنظر عبر معالمها التليدة لأيامها الخوالي؛ ومسراتها وأحزانها، وعز الخلافة وتدهورها، والدولة القُطرية وانحسار الإسلام، والصحوة والنهضة الجديدة، والتطور المرتقب في السنوات القادمة.
الأيام الأولى في إسطنبول كان يدهشني الاعتداد التركي الغارق بالفكر القومي وتمجيد ذاتهم ومركزية كنت لا أستطيع هضمها، وعدم صبرهم وحبهم للسرعة سواء في الكلام أو قيادة السيارات. وعند ذكر السيارة لا بد أن يلاحظ الغريب الأبواق المزعجة التي "يطلقونها على نحو مسعور" كما قالت شافاك في كتابها "لقيطة إسطنبول"، ولكن بعد شهرين من وصولي إلى تركيا بدأت أفهم سلوكياتهم ونظرتهم للغريب، ونشأت بيننا مشاعر الود وإن كانت بطيئة بسبب اختلاف اللغات.
هناك مدن تعيد تشكيل العقول كالكتب تماماً، ومنها إسطنبول، التي استقبلتنا بأمومة وحفاوة راقت لزوجتي، التي قرّرتْ عدم العودة إلى مثالج مينيسوتا وبالوعات نيروبي ومخاوف كسمايو. في نيروبي كانت حياتي شديدة الملل، أما في إسلامبول فشعرت بحيوية لم أعهدها منذ زمن بعيد. في غرفة مطلة على أسوار القسطنطينية القديمة كنت أعيش أجواء تغريني باسترسال الخيال والتعمق في المباهج.
بات كل شيء جميلاً ومألوفاً، حتى الكتابة التي لم تعد ممكنة في الشهور الماضية رغم أنها صرخة تتحدى الموت عند كثير من الجيل الصومالي أصبحت سهلة! هل حركت المدينة خيالي السردي؟ لا أدري، ولكن ما أعرفه هو أن المدينة منحتنا أنا وزوجتي الصفاء والجلوس معاً. ضحكنا وتجولنا في الأسواق والمتنزهات، وتحدثنا عن أصدقاء الطفولة، والمدرسة، وأحياء كسمايو، والنظرة الأولى، وذكريات الفراق، وليالي الوحدة في ميتشيلس بلاين- كيب تاون، وعن الربيع وغنائه السحري. قضينا أياماً مطرزة بجمال إسطنبول، وفي مساء كنا على موعد مع عشاء على وقع ألحان التراث في مقهى مطل على خليج مرمرة أدركنا أن السعادة لا تكمن في الجري وراء العمل والمناصب وجمع الثروات، بل تكمن في الحب ولحظات الصفاء والساعات الخالية عن الكدر وصخب الحياة، لقد مر وقت طويل منذ أن تحدثنا بهذه الألفة.
في الأسابيع اللاحقة وحتى قبل مغادرتي إلى سهول الأناضول تجولت في أحياء إسطنبول مع رفيقة دربي، نبحث عن جمال الحضارة وسرديات التاريخ وشعور غامض من السعادة يجتاحني! أنّى اتجهت إلى إسطنبول سيبهرك التاريخ، هنا بصمة العثمانيين، وهناك ما تبقى من ملامحها البيزنطية، فيما معالم الحقبة اللاتينية ما زالت تصمد أمام الجدد. لقد شعرت في ساحات المسجد الأزرق بطمأنينة نادرة، وتجولت بأرجائه، وصليت تحت قبابه المزركشة وخلف أعمدته الضخمة، كيف استطاعوا بناء هذه التحفة المعمارية قبل قرون كان الغرب يتمرغ بحمأة التخلف ويتخبط بظلام الجهل والأوبئة؟
جلست وراجعت شريط الخيال إلى قبل 5 قرون والسلطان أحمد الأول يجهز الجيوش لمقارعة النمسا في الغرب، والصفويين في الشرق، ويخمد التمردات الداخلية بالعضب المهند تارة وسيف القوافي تارة أخرى، أما الجانب الآسيوي من المدينة فله حكايات ومخاوف، ذهبنا إلى الجانب الآسيوي عبر نفق طويل يربط بين ضفتي المدينة، وبعد أن قطعنا نصف الطريق قال لي صديقي جعفر: لو حدث زلزال الآن ستغمرنا المياه وستتهدم الأنفاق ونموت في عمق الظلام، بعيداً عن الأهل والأصدقاء ودفء الشمس! ولا بد أنه أثار الذعر في نفسي، خاصة أننا في مدينة تقع على مشارف صدع شمال الأناضول، واشتهرت بالزلازل المدمرة.
في طريق العودة ركبنا عبّارة سياحية تتبختر على هامة الأمواج، في السطح العلوي كنا قرابة عشرين شخصاً بمختلف السحنات واللغات والأديان والهموم. لقد طوي بنا مضيق إسطنبول وتمادينا في مياهه الزرقاء، وكسراً للحاجز تحدثنا مع امرأة كانت تجلس إلى جانبنا، لقد تشعب الحديث بنا، أو بالأحرى مع صديقي الذي يتقن اللغة التركية والمرأة الأوزبكية التي عاشت نصف عمرها في إسطنبول، وحينما ذكرنا للمرأة الخمسينية أننا من الصومال ابتسمت بغرابة، كان صديقي أول صومالي رأته تلك السيدة في حياتها، التي بدأت من ريف ولاية نمنغان الأوزبكية.
وصلنا إلى البر الأوروبي، وكان يوماً مشمساً، فذهبنا إلى ميدان التقسيم الذي التقيت فيه كويتياً حدثني عن تركيا وأهميتها في قضاء الإجازات، وأنها الوِجهة المفضلة لسكان الخليج. التقسيم لم يكن نابضاً بالحياة كعادته، المقاهي شاحبة وخالية، إلا من كراسي حزينة تنتظر عودة الحياة إلى طبيعتها. جلسنا على مقاه ظلت شكل الحضن الدافئ للفن والأدب، واستضافت عباقرة الكتاب ورواد القلم كجمال الدين الأفغاني، وإرنست همينغواي، وأغاثا كريستي، وأدموندو دي آميتشي. هنا وقف قبل عدة عقود الكاتب الأمريكي جيمس بالدوين، الذي هرب من عنصرية أمريكا بحثاً عن الإنسانية، وملاذ آمن يستطيع الزنجي أن يعيش فيه كالبشر.
عندما وصل الكاتب الذي حوّل الكتابة إلى كفاح، واستخدم الأدب كسلاح للمقاومة إلى إسطنبول في العقد السادس من القرن العشرين كانت متعبة بالانقلابات العسكرية وسطوة الجنرالات ورائحة البالوعات، وكان الكاتب الأمريكي مريضاً ومحبطاً وراحلاً نحو إفريقيا. كان هارباً من الظلم والعدالة المفقودة، بينما هربتُ أنا من روتين الحياة وإحباط الواقع ومخاوف المستقبل، وسئمت من حروب لا تنتهي. ولقد شدّ الكاتب المغمور رحاله نحو المدينة الحزينة يحمل مسودة روايته "Another Country" وفي سياق مشابه ها أنا أحمل هموم جيل صومالي مهزوم وفي جعبتي كتابان، أحدهما يتناول قضية تشبه التي هربها ابن هارليم؛ الظلم والعنصرية في المجتمع، وأمل أن يكون جماهيرياً يدخل كل بيت صومالي، ليس لأنه الأفضل، بل لأنه يعالج قضية إنسانية تؤرقنا جميعاً. أما الكتاب الآخر فيتطرق إلى ذكريات ومأسٍ وحروب، وبهجة الأدب ولذة العلم والتنقل بين المدن والأوطان، إنه سيرة ذاتية من نوع خاص. وفوق ذلك ما زلت كاتباً مغموراً وصوتاً قادماً من الهامش، تحيطه العقبات وتتجاذبه اللغات، لغته الأم، ولغة صنعته، التي فتحت له آفاق الفكر والثقافة والأدب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.