منذ بداية صناعة السينما والأمومة تُشكل أحد الموضوعات الرئيسية التي تتعرض للمعالجة والمناقشة داخل القصص السينمائية ودراميتها، بالأخص في السينما الواقعية، ولكن مع صعود سينما الخيال في السنوات الأخيرة بدأت المعالجات الدرامية الواقعية لأفكار كالأمومة والأبوة تتراجع، مقابل معالجات خيالية ملحمية.
ربما استمر ذلك التراجع لبعض الوقت، ولكن كالعادة عادت الأمومة والأبوة للسينما بقوة باستخدام سينما الخيال نفسها كأفلام الخيال العلمي والرعب، وربما يمكننا القول إن سينما الرعب بالأخص قد استطاعت التركيز على فكرة الأمومة، لأن عامل الحرمان منها يشكل أحد أكثر مفاهيم الرعب أصولية وقوة، وعلى هذا القول أقدم لكم أحد أهم الأفلام الحديثة التي ناقشت مفهوم الأمومة.
في الثالث والعشرين من يوليو/تموز الماضي، أصدرت نتفلكس فيلمها الألماني "Blood Red Sky"، فيلم الأكشن والرعب والإثارة، من إخراج بيتر ثوروارث، ويسرد الفيلم لنا قصة ناديا، المرأة المسكينة التي عانت من عضة مصاص دماء بعدما قتل زوجها، ما تسبب في تحولها، وكيف استطاعت الصمود أمام المرض والتحول كي تحمي وتربي ابنها الوحيد دون تدخل أو مساعدة إنسان.
فالبشر كالعادة يخافون مما لا يفهمونه، لذا كان على ناديا الصمود وحيدة، وبعد سنين، وحين عثرت على الأمل أخيراً في علاجها من حالتها الشيطانية تقرر الذهاب لأمريكا كي تتلقى العلاج، لكن القدر كان له رأي آخر، حينما تتعرض رحلتها للخطف بواسطة مجموعة إرهابية تهدد حياتها وحياة طفلها الوحيد، وهنا كان على ناديا أن تخرج الوحش الشيطاني من أعماقها، الوحش الذي حاولت كبح جماحه منذ تحولها، فقط كي تحمي طفلها.
يمتلك الفيلم بالطبع قدراً جيداً جداً من الإثارة والحركة، وقدراً لا بأس به من الرعب، ولكن أهم نقاط قوته في رأيي هي تركيزه على إخراج الروح البرية داخل المرأة، تلك الروح التي تخرج حينما تشعر بأن صغارها في خطر، تلك الوحشية البربرية والتضحية العظيمة التي تبذلها الأم لحماية أطفالها.
وفي أحد المشاهد العظيمة التي احتوى عليها الفيلم في بدايته، كان مشهد تلقي الأم ناديا رصاصة مميتة كي تحمي طفلها، ماتت أمام أعين الجميع، فقدت حياتها وسط صمت الرهائن، ولم يحاول أحد الدفاع عنها أو عن طفلها، ولكن روح الأم لا يمكن أن يوقفها الموت، ومن بين الموت تعود ناديا للحياة، وحشاً مرعباً، لا يفكر في شيء سوى حماية طفله، ما يجعلها تتسبب في كارثة تحول كل ركاب الطائرة إلى مجموعة من الوحوش الدموية، ولكن لا يهم "فليحترق العالم كله لأجل أن ينجو طفلي" كما ظننتُ أن لسان حالها يقول.
كانت قصة ناديا وصراعها وما تسببت به من كوارث كي تحمي طفلها تملك ذلك التشابه الرائع والساحر مع قصة ديميتر الأسطورية، التي تحكي أصل فصول العام.
فالإلهة ديميتر كانت زوجة الإله الإغريقي زيوس، وكانت ديمتير إلهة الحصاد والزراعة والخصوبة، وكانت تمتلك ذات الرابط الأمومي السحري مع ابنتها من زيوس "بيرسيفون"، لكن في أحد الأيام اختفت ابنتها، فزوجها زيوس قد قرر إعطاء بيرسيفون لأخيه هاديس، الذي خطفها بدوره ليأخذها معه للعالم السفلي دون علم الأم ديميتر.
حين تعلم الأم بما حدث، وحين تدرك الاتفاق الخفي بين زوجها القاسي وأخيه الشرير، تتخلى عن واجباتها الإلهية وتقول داخل نفسها: "فليحترق العالم كله لأجل طفلي".
فتموت الأرض، وتنتهي الزراعة، ويسقط العالم كله في حفرة من المجاعة، فقط كي يعاني مثل الأم التي تبكي طفلتها، تتنكر ديميتر في هيئة امرأة عجوز وتعيش بين البشر، تخدم عائلة ملكية وترعى أطفال تلك العائلة، ثم سرعان ما تسقط ضحية لمشاعر الأمومة مرة أخرى فتحاول تحويل ذلك الطفل لإله، لكن زيوس يدرك نيتها فيقرر أن يعيد لها ابنتها لمدة أربعة شهور كل عام.
وهكذا يصبح الشتاء هو تلك الفترة التي تحزن فيها ديميتر على فقد ابنتها، ويصبح الربيع هو فترة سعادتها بلقائها السنوي.
والآن كلما تأملنا فكرة الأمومة المجردة نجدها متعمقة في جذور الإنسانية، متمثلة في كل الأعمال الأدبية والفنية وكذلك السينمائية، منذ الأساطير القديمة إلى الأفلام الحديثة، ستجد الأمومة دائماً خالدة.
وفي نهاية حديثنا، يمكننا القول إن فيلم "Blood Red Sky" قد استطاع تقديم رؤيته لتلك الفكرة وذلك المفهوم الأمومي بشكل عظيم، وربما قد نحتاج للمزيد من تلك الأعمال التي تبرز قوة الأم وتضحيتها في سبيل الطفل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.