سرقات ومحادثات وهوس وجنون لطيف.. هكذا رصدت “عاشق الكتب” علاقة الكتب ومحبيها

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/25 الساعة 13:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/27 الساعة 12:36 بتوقيت غرينتش
مصدر الصورة: Istock

تدوين تجارب القراءة هو محور لمذكرات الأدباء والمشاهير. الحديث عن التكوينِ المعرفي يتطلبُ استعادة الروافد الثقافية والمصادر التي صقلت الفكر وكانت عاملاً للانطلاق في دروب المعرفة. هنا يمكن الإشارة إلى ما سرده المفكر المصري سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علموني"؛ إذ يذكر طبيعة دور وتأثير نخبة من الكتاب والمفكرين على مسيرته، كذلك فإنَّ سيرة الكاتب العراقي "علي حسين" هي ما قرأه، يقولُ في مقدمة كتابه "غوايات القراءة": "عندما أكتب عن الكتب وأستذكر مؤلفيها لا يمكنني غض الطرف عن الروابط العاطفية بيني وبين الكتب والقراءة". وكان جامع الكتب يوجين فيلد قد تعوَّد على محادثة كتبه كل يوم باعتبارها كائنات تفيض بالمشاعر والعاطفة، وحلت المكتبة مكان المعبد بالنسبة لجان بول سارتر. وعلى نهجهم تسير "عاشق الكتب".

إذن، تتعمق العلاقة الوجدانية بين القارئ والكتب إلى أنْ تصبحَ قصة الكتب متواشجةً مع تفاصيل الحياة والسيرة الشخصية. يشيرُ الكاتب المصري شاكر عبدالحميد إلى أنَّه قد بدأ بالقراءة  في المرحلة الثانوية وبينما كان  يمشي في الشارع فإذا به يجدُ جنيهاً وأولُ ما فكر فيه آنئذٍ هو شراء الروايات بما رمي إليه الحظُ. وهذا يعني أنَّ جمع الكتب واقتناءها يكونُ هاجساً لدى القارئ، ويزدادُ الشغفُ بالتدرجِ وينفتحُ أفق القراءة على عناوين جديدة وكل كتاب هو عبارة عن الحلقة في سلسلة اختيارات لا متناهية في غابة المعرفة. لذلك كان من الطبيعي أن تتحولَ القراءةُ والهوسُ بالكتب موضوعاً لعدد من الروايات والأفلام السينمائية هذا ناهيك عن نشر يوميات القراءة على غرار ما قدمه الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل في بعض إصداراته. 

وتنزل رواية "عاشق الكتب" لمؤلفتها الأمريكية أليسون هوفر بارتليت في صنف الروايات التي تتناول الانسياق وراء رغبة جمع الكتب ونهم البحث عن العناوين النادرة، والدوافع وراء الولع بالكتب، ويستمد هذا المنجز الأدبي فرادته من تغطيته للصراع المحتدم بين باعة الكتب واللص جون جيلكي الذي يتحينُ الفرص لاصطياد الكتب الثمينة.

الأجندة

 ما يكسي النص مزيداً من التشويقِ هو انتظام مواده في سياق السرد الاستقصائي. فإنَّ آلية الروايات مطعمة بالحس الصحفي تعكسُ في رشاقة الأسلوب وترتيب محتويات الرواية في وحدات مترابطة. يتناوب السرد الموضوعي والذاتي على مفاصل العمل شأن معظم الروايات المكتوبة بنفس صحفي حيثُ لا يغيبُ صوت المؤلف فبالتالي قد يتبدلُ نوع الضمير من المتكلم إلى الغائب. ويتضحُ المنحى الصحفي من خلال تقصي الساردة لأخبار سارق الكتب وتسجيل الملاحظات في دفترها كما تظفرُ باستجواب جون ومعرفة البيئة الأسرية التي نشأ فيها مع إضافة معلومات عن طبيعة المكان التي قد ألقت بتأثيرها على سلوكيات جون، فالأخير ولد في منطقة موديستو التابعة لولاية كاليفورنيا والمعروف عن هذه المدينة هو تسجيل أعلى معدلات سرقة السيارات فيها. وتردُ في إطار الرواية عناوين الكتب التي  يفضلُ جون قراءتها عندما كان طفلاً؛ إذ أعجب بشخصية ريتشي وهي غريبة المظهر تلهب خيال الأطفال وتستهويهم إمكانية حصولها على ما يريدُ بأقل جهدٍ. كما أنَّ أحد كتبه المفضلة حسب ما تنقلُ عنه الساردةُ هو موسوعة الجرائم المصورة. والأهم من ذلك هو الإبانة عن الفلسفات والشخصيات الفكرية التي يتابعها جون؛ إذ يجذبهُ أتباع الفلسفة الوجودية لأنهم أعلنوا عجزهم التمييز بين الصواب والخطأ، وذلك ما يفسرُ رغبته باقتناء كتاب "جين آيريس" عن الفيلسوف جان بول سارتر، لا يتجلى الحس الصحفي في تتبعٍ بارتليت لشخصية جيلكي وتوثيق ما يقولهُ عنه أصحاب المكتبات والمتاجر فحسب، بل تظهرُ بوجهها المهني الأوضح عندما تزورُ أمهُ كورا التي تحملُ زوجها مسؤولية تورط الابن في عمليات السرقة راجيةً من ابنتها تينا بإيماءة تأييدها في الرأي. هنا يتم التعرف على جانب آخر  من شخصية جون الذي يخلقُ القصص ويحبكها داخل رأسه حسب كلام كورا، ويبدو أنهُ قارئ نهم يكملُ كتاباً في يوم واحد، يذكر أن بارتليت كلما تسألُ جون عن الكتب التي تعجبه لا يرشحُ عنواناً بعينه بل يلفتُ إلى الناحية الجمالية قائلاً: "إنها متعة بصرية الطريقة التي تبدو بها الكتب وهي متراصة على الرف"، وما يشد الانتباه هو الأطوار التي يمرُ بها جون يفاجئ الصحفية حين يخبرها بأنَّه يحضرُ دروساً في "كلية قرية" ملتحقاً بقسم يختص بفلسفة نيتشه؛ إذ إن شخصية جون مركبة ويتقمص أدواراً متعددة ويتمكن من تزييف بطاقات الائتمان وبيانات الايصال مناوراً من خلال الهاتف العمومي، متنقلاً بين الفنادق للتمويه على شخصيته، ويشهد له زملاء العمل بالمهنية واللباقة. كل ذلك يؤكد وجود مواصفات استثنائية في تركيبة جون تضعه في صف الشخصيات الدرامية المتعددة الأبعاد، وهذا ما حدا ببارتليت لإسباغه موقع الاستقطاب الدلالي في متن الرواية.

عاشق الكتب

يتميزُ النص الروائي بمرونته في تضايف المقتبسات وانفتاحه على القصص الفرعية ضمن قصة الإطار، وبذلك يكونُ المجال متاحاً لمتابعة سلسلة من الوقائع والأحداث المتفاوتة على المستوى الزمني، وقد تكون متقاطعةً من حيثُ ما يرمي إليه المؤلف من الإبانة عن الظواهر والتقاليد التي لا تنفصل عن الكيانات البشرية لا تكتفي هوفر بارتليت برصد حركات جيلكي وزيارته في السجن واستجوابه وتضمين عملها بإحصائيات عن سرقة الكتب، وهي أكثر انتشاراً من سرقة اللوحات الفنية بل زيادة على كل سبق ترى نتفاً عن حياة بعض باعة الكتب، ورأيهم حول ما يحددُ قيمة الكتاب تنقلُ الساردة عن صاحب المتجر ساندرز قوله إن التمرس والاطلاع  يحددان قيمة الكتاب الذي يختاره، مضيفاً أن قيمة الكتب بشكل كبير تعتمدُ على الموضة الأدبية والأذواق، وتتسعُ الحزمة السردية لقصة سليليا ساك صاحبة متجر بيع مستلزمات الحيوانات الأليفة، وما أن تتبادل بارتليت أطراف الحديث مع ساك حتى تدرك ثقافتها الأدبية العميقة وتتفاجأ عندما تزور شقتها بأنَّ غرفة الطعام قد تم تحويلها إلى مكتبةٍ تغطي الجدران بالرفوف الممتلئة بالكتب. وتضيفُ هوفر قصة سيرانو الذي كان يعملُ سائقاً للشاحنة وهو في الثالثة والعشرين من عمره واشترى في ذلك الوقت أول كتبه الثمينة بمئة دولار، وما انفك يرتاد مزادات بيع الكتب والحصول على التحف الثمينة بالنسبة إليه غاية تعطيه سبباً للحياة. والأغربُ مما يردُ بين طيات الرواية عن هوس بالكتب، هو قصة الراهب الإسباني دون فيست الذي عندما فشل في اقتناء كتاب يضم قرارات ومراسيم خاصة بفالنسيا يقومُ بإحراق خصمه في المزاد، ولا يعاقبُ إلا بالإعدام. 

رواية عاشق الكتب
رواية عاشق الكتب

ولم يتوانَ غوليلمو ليبيري  من انتهاز مقامه العلمي لسرقة عدد كبير من الأعمال النادرة وبيعها بمبالغ طائلة. ومن الأحداث الطريفة التي يرويها ساندرز أن زوجة أحد أصدقائه بدأت تبيعها كتباً وتجلبُ كل أسبوع رزمة من العناوين، ومع تكرار عادتها  تزدادُ كمية الكتب، ومن ثمَّ يكشفُ أنها لصة الكتب وعندما تغادر المتجر تسرقُ بضاعة جديدة. ما يجبُ الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن فيض القصص في رواية "عاشق الكتب"، أنَّ بارتليت قد نجحت في الموازنة بين الحس الصحفي والمذاق الأدبي في سبك فصول الرواية، كما أنَّ وفرة المعلومات عن المكتبات الموجودة في أمريكا وأسواق الكتب وما تعنيه الأعمال الأدبية الأثرية على المستوى الحضاري والاقتصادي والنستولوجي بالنسبة للمواطن الأمريكي تضيفُ بعداً معلوماتياً إلى الرواية، فإضافة إلى عنصر المتعة تضعُ القارئ أمام وجه آخر للمجتمع الأمريكي، وتفيد بأن الكتاب لا يزالُ قواماً للمجتمعات المتحضرة. إذا كان الهوس بالكتب نوعاً من الجنون، فهو جنون لطيف، ولا عجب لمن حلَّت به هذه الفضيلة مقاضاة كثير من مصادر المتعة بالنزهة بين رفوف الكتب.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كه يلان محمد
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
تحميل المزيد