إن حياة واحدة قد لا تكفي، نحتاج لممارسة الفن لنحيا حيوات أخری، ولأن كل تجربة حياتية جديرة بالتوثيق.
تأخذنا الكتابة كأحد أرشق فنون الحياة وأكثرها مقدرة على التوثيق لعوالم أخری، أحياناً تكون تلك العوالم موازية لعالمنا، أو عوالم كانت وانتهت منذ سنوات بعيدة وأزمنة سحيقة.
الكتابة صوت بديل لصوت آخر تم حجبه أو دارت عليه دائرة النسيان، الكتابة منحة للنظر عن كثب، تكثيف من منظور مختلف، وهي التوثيق الملائم للقضية التي ندافع عنها، كل منا حسب قضيته.
لا أحد ينام في الإسكندرية
في رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" للروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، مُنح دور البطولة للمدينة العريقة، كُلف أبطال الحكاية بسرد تاريخ الإسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية. أبطال "لا أحد ينام في الإسكندرية" أشخاص عاديون، من واقع عالمنا، يتأثرون بما نتأثر به، ويشعرون بما قد يشعر به أي فرد وقت الحرب.
تصدّرت الحرب "لا أحد ينام في الإسكندرية" في فصولٍ عديدة بالأرقام والإحصائيات الرسمية التي صدرت وقت الحرب، عن عدد الضحايا وأنواع الأسلحة والرسائل الشخصية للقادة التي تم كشفها بعد الحرب.
تاريخ طويل دوّنه إبراهيم عبدالمجيد في "لا أحد ينام في الإسكندرية"، ربط أبطال العمل بحدث زلزل العالم، وبمكان عاصر كل تلك الأحداث، وظل راسخاً ورافضاً للمحو الذي أصاب أماكن وعواصم أخری شهدت علی الحرب.
في "464" صفحة، وهي عدد صفحات أول أجزاء ثلاثية الإسكندرية، "لا أحد ينام في الإسكندرية"، التي صدرت في عام 1996، الذي استغرقت كتابته ست سنوات من البحث والتمحيص والسفر، وقراءة الصحف اليومية التي صدرت خلال تلك الفترة، والتي تبدأ من "1939" وحتی هزيمة جيوش المحور في منطقة العلمين وانسحابهم من إفريقيا كلها. اعتمدت الرواية علی الصحف اليومية التي صدرت خلال تلك السنوات، التي كان أبرزها الأهرام، التي كانت تدوّن كل صغيرة وكبيرة، كما ساهمت رحلات إبراهيم عبدالمجيد إلی مسارح الأحداث مثل العلمين والإسكندرية، في إثارة ذاكرته وإيقاظ الحكايات القديمة التي كان يرويها له والده.
سعی إبراهيم عبدالمجيد لتحقيق حلمه بكتابة رواية عن المدينة التي نشأ فيها وهاجر منها ولم تهجره، كانت "لا أحد ينام في الإسكندرية" في رأسه تنمو وهو في الخامسة من عمره، بسبب حكايات والده عن حرب العلمين، كانت الرغبة في الحكي تتجذر بداخله وتسيطر عليه، حتی تم الانفجار العظيم بالكتابة عن الشيخ مجدالدين ودميان ورشدي وكاميليا صاحبة الكرامات وغيرهم، حكاية يظنها القارئ في البداية حكاية عادية عن الثأر والظلم، ولكنه كلما أبحر فيها وجدها حكاية حقيقية، نص ثري بديل للكُتب التاريخية المملة، وقصة إنسانية عما تفعله نيران الحرب وقسوة الفراق في نفوسنا.
طيور العنبر
كان من الممكن كتابة الثلاثية كاملة عن نفس الأشخاص، ولكن الجزء الثاني من ثلاثية الإسكندرية الذي حمل عنوان "طيور العنبر" جاء عن أبطال آخرين وشخصيات مختلفة تماماً عن الجزء الأول، باستثناء ذكر شخصيتين ثانويتين وهما "حمزة" عامل السكة الحديد، الذي تم اختطافه في الجزء الأول من الإنجليز، و"حميدو" حرامي الإنجليز، الذي يتردد على السجن بشكل مستمر.
"هل كانت الرغبة في حفظ تفاصيل المكان أكثر أهمية من كتابة حكاية مكررة عن الناس؟"
تردَّد هذا السؤال في ذهني بشكل مستمر وأنا أقرأ، ولم أتوقف عن عقد المقارنات بين الجزئين الأول والثاني، والذين جاءوا في "460" صفحة لكل جزء منها.
ينبع سر تفرد ثلاثية الإسكندرية من الخصوصية الشديدة لكل جزء فيها، نجد أن الجزء الثاني متعدد الشخصيات ومزدحم بالتفاصيل بشكل مربك، نجد أن حيوات الشخصيات كلها جديرة بالسرد والاهتمام، يتخطی عدد الشخصيات الذين يتم سرد حكايتهم أكثر من 20 شخصية تقريباً، لكُل منهم نصيب في سرد جزء من القصة عن طريق المولونوج الداخلي، الذي استمر في أغلب أجزاء الرواية، كي يمنح لكل شخصية صوت خاص بها، أو عن طريق تبادل المراسلات كما حدث في القسم الأخير من الرواية أو الحوارات فيما بينهم.
تأتي طيور العنبر في ثلاثة أقسام مقسمة لعدة فصول، لم يترك فيها "إبراهيم عبدالمجيد" أي معلومة عن فترة العدوان الثلاثي وما تلاها إلا وقد سردها، حتی رغبته الداخلية في كتابة عمل مهم عن الإسكندرية لم يتركها بداخله، ووضعها بكل تفاصيلها وإرهاق عملية الكتابة في شخصية "سليمان" التي استوحاها من صديق قديم له، والذي تعذبه رغبة كتابة حكاية فريدة ومهمة لتوثيق تفاصيل الإسكندرية. ذكرني "سليمان" بسيزيف الأسطورة الإغريقية، ما إن يقبض علی فكرة مناسبة حتی تهرب منه تماماً كصخرة سيزيف. كما منح الروائي السكندري كل شغفه بالسينما لمحمود الملاح، بطل الحكاية الآخر الذي كان يأمل في صناعة فيلم عن الحرب، بالإضافة لحوارات الشخصيات الروائية الشابة عن السينما، وأبرز نجومها في ذلك الوقت.
ثم تأتي حكاية "حبشي وبدرة" الساكنين علی ضفة الترعة، وكأنهما خُلقا قبل شقها، لا أحد يعرف أصلهما، وتأتي حكاية حبشي شديدة التعقيد والثراء، راح يدمج فيها عبدالمجيد الحقيقي، عن الرجل والمرأة اللذين سكنا هذا الجزء من الترعة في فترة الصِّبا مع الأشياء الخيالية اللازمة للحبكة الدرامية. أما حكاية خير الدين الذي هو صديق إبراهيم عبدالمجيد في صباه أيضاً، والذي تُوفي بسبب السُّل فهذه حكاية كلها غم تثير الشجن في النفس وترهقها.
يقول "إبراهيم عبدالمجيد" في كتابه "ما وراء الكتابة" إن كل شخصيات طيور العنبر تقريباً هي شخصيات حقيقية، رآها وتعامل معها في فترة صباه وشبابه في الإسكندرية، لقد قضی إبراهيم عبدالمجيد ربع قرن في مدينته الساحلية قبل أن يرتحل إلی القاهرة، تركها وهو لا يعرف أنها ستظل محور أغلب أعماله وأنه سيكتب عنها أبرز أعماله.
تبدو ثلاثية الإسكندرية عملاً فنياً متخماً، مليئاً بالحكايات والأحداث الغريبة، تتداخل الحوارات في الجزء الثاني مع سرد الراوي العليم، ما يوحي بالارتباك في كتابة النص أو سرد الحكاية.
الإسكندرية في غيمة
الجزء الثالث والأخير في ثلاثية الإسكندرية، يأتي هذا الجزء في 460 صفحة مثل الجزئين السابقين، وتدور أحداثه في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، حيث بدايات صعود تيار الإسلام السياسي وتوغله في الحياة المصرية، صابغاً كل مظاهر الحياة بالعادات الصحراوية التي لم تكن بداخل المجتمع من قبل.
يحكي إبراهيم عبدالمجيد معتمداً في هذا الجزء تحديداً علی ذاكرته، هي فترات عاشها بالفعل بكل ما جری فيها من اختفاءات قسرية وتُهم معبئة تحت مسمی قلب نظام الحكم، وحتی بدايات دخول البلد في نفق مظلم نتيجة تعاون السادات مع الجماعات الإسلامية السياسية، والتي أدت في النهاية لمقتله.
تُطل علينا "نوال"، إحدى أبطال الجزء الثاني من الثلاثية في شكل جديد، بعدما تزوجت من رجل كبير كان عضواً في حركة شيوعية، وورثت كل أملاكه، ثم قامت بشراء ملهی ليلي لتحقق فيه حلمها القديم وهو الغناء، محاولات أن يكون للمرء صوت واضح يسمعه الجميع ونتحدث به وقتما نشاء.
في هذا الجزء وعبر شخصياته العديدة، والذين هم علی عكس الأجزاء السابقة، فكلهم من الشباب، باستثناء "عيسی سلماوي"، الأربعيني صاحب الأحاديث النظرية المملة جداً، يمنحنا إبراهيم عبدالمجيد منظوراً اجتماعياً مغايراً غير متداول، يحكي عن فترة شديدة الصعوبة في تاريخ مصر الحديث.
فترة الوقوع في غيمة العادات الصحراوية التي جذبت هذا البلد للخلف.
في هذا الجزء تخلّی إبراهيم عبدالمجيد عن مزايا الأجزاء السابقة، لم يعتمد علی المشهدية المدهشة التي ميّزت الجزء الأول، ولم يعتمد علی أبطال العمل ليخلقوا رواية رائعة يضرب بها المثل في كيفية صنع عمل روائي كبير، مثل طيور العنبر.
في الجزء الثالث قرّر الروائي أن يفرغ غضبه من المجتمع والجماعات الإسلامية والاتفاقيات السياسية التي تُعقد لصالح القادة فقط. قرر منح الرواية عنواناً يرمز لحال البلاد بأكملها خلال فترات ما بعد سقوط النظام الملكي في عام 1952. استخدم أسلوبه المقالي ومعلوماته الكبيرة عن أنظمة الحكم مثل الشيوعية وغيرها، كما أنه اعتمد علی ذاكرته الحية لشرح فترة حرجة عاشها بنفسه.
في "الإسكندرية في غيمة" نلمس حزن مواطن سكندري يكتب ليرثي المدينة كما نرثي أمواتنا، يستحضر هنا آخر الأنفاس لمدينة شهدت التعددية في كل شيء، يكتب عن آخر شخص أجنبي يقرر الرحيل، وعن آخر قصة حب حقيقية، وآخر امرأة يمكن أن يقع في حبها كل الرجال.
هنا نجد أن الكتابة فعل حياتيّ لا غنی عنه، لأن أهم شيء في الكتابة هو أن تعيش لسنوات أطول بكثير عن أبطالها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.