يعنون منير شفيق كتابه الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية 2021، "من جمر إلى جمر"، ويذيله بعنوان جانبي بأنه صفحات من ذكرياته وقد دونها وحررها نافذ أبو حسنة. وهو بهذا ينأى عن الذاتي، ويركز على العام والثقافي السائد. للتوضيح سأفرق بعجالة بين السيرة الذاتية والمذكرات. "يمكن القول إن الترجمة الذاتية الفنية، ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل مذكرات يُعنى فيها بتصوير الأحداث التاريخية أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي. وليست هي التي تكتب على صورة ذكريات يُعنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته".
من جمر إلى جمر
العنوان "من جمر إلى جمر" جملة إسمية من خبر والمبتدأ محذوف، ولنا أن نتخيل المبتدأ: قلبي أو أنا أو وطني أو فكري أو حياتي، فالعنوان هو النواة المتحركة التي يخيط الكاتب عليها نسيج نصه، وما الحذف إلا تكثيفٌ لمعنى أراده أن يحضر بقوة، واختار أن يكون النص كله إجابة للغموض الذي يلحق بالحذف. وعليه يمكن القول إن هذه العتبة، شكلت أولى كلمات الخطاب الذي توجه به شفيق إلى العالم، يحمل المشهد الثقافي والفكري الذي كتبت فيه تلك الذكريات، "فهو من جهة يلخص معنى المكتوب بين دفتين، ومن جهة ثانية يكون بارقة تحيل على الخارج، خارج النص". يمكن للمتلقي أن يقدر حجم القهر واللوعة، ويتخيل الصراعات الداخلية والألم وهول الخسائر التي عرفها من تقلب فوق الجمر، وليس الكلام عن ذات الكاتب فحسب، إنما عن مشهد نفسي جماعي فلسطيني وربما إنساني. يؤسس الحذف النحوي بطريقة ما لحذف مضموني، فالذكريات حرة من أي تسلسل، يمكن لصاحبها أن يكسر الزمن ويعبر فيه، من دون تتابع محكم، مقدماً مضموناً نوعياً بين البوح والكتمان، جاعلاً النص وكأنه سؤال شائك لخبر المبتدأ المحذوف، أو أنه إخبار مراوغ عن مبتدأ غير مكتمل المعنى والحضور. فما الذي لم يكتمل في حياة نيفت عن الثمانين؟ وأي جمر كان الأقسى؟ وأين حفر؟
يؤسس شفيق لوجوده المادي في الأرض من القدس، حيث هناءة العيش، يذكر بما كتبه إدوارد سعيد في سيرته خارج المكان. وهي المكان الوحيد تقريباً الذي ينعم بالوصف، إذ تبدو بقية المدن أو الأماكن شاحبة، ألفاظ لك أن تتخيل مضمونها كما شئت، فلا بيروت ولا عمان أو تونس أو غزة القاهرة أو أي مدينة أخرى وردت في الكتاب، حظيت بالوصف الذي خص به القدس. ولا السجن أو مكان العمل أو القاعات التي شهدت مناظراته أخذت أي حيز حقيقي، أعطاها قيمة أو حضوراً، ولا حتى مفردة البيت، حين نسبها إلى نفسه (بيتي) بدت مشعة بما في البيوت من ألفة وراحة، بالعكس بدت أمكنة ضيقة باهتة منسية، لولا حصول الأحداث فيها. القدس هي المكان الأول، لها الحنين والحب وفيها يقال الشعر وما تبقى أمكنة غير محسوسة، ضيقة ومنفرة وبليدة، فإلى أين تهرب نفس لسعها جمر فراق مكانها الأول؟ وهل كانت وحدها؟
قبل الاقتلاع من فلسطين عام 48 يرسم شفيق ملامح الأنا الجماعية منسجمة بكونها مجتمعاً واحداً، يحيا أبناؤه قيمهم بطواعية وتوافق ويشكلون شعباً ذا ثقافة متميزة هو الشعب الفلسطيني. حينها كانت الهوية الفلسطينية الجماعية، التي في مقابلها وأحضانها نشأت هوية الذات، هوية تشكلت "كنتيجة لعملية حضارية تاريخية طويلة ولم تتشكل كرد فعل على المشروع الصهيوني" إذاً هي ليست هوية متضخمة أو متخيلة إنما هي نتيجة طبيعية لمسار حياة الشعب الفلسطيني، ومسار الذات كفرد من أفراد هذا الشعب.
بعد الاقتلاع اعترى تلك الهوية قلق وجودي، جعلها تتمسك بما يحمي وجودها وإن كان غير تقليدي أو محارباً وغير مقبول أو مألوف، فظهرت على السطح الشيوعية وغيرها من الأفكار التي طفت في تلك الحقبة، تبناها من تبناها من الفلسطينيين، وأضحت سقفاً لفكر متوقد، يبحث عن معنى قيَمي يفسر الظاهر الذي يرفضه العقل، أي واقع الاستيطان الذي أورث اللجوء، ويعطي في الوقت نفسه القوة للضعيف، متمسكاً بحلم التغيير القائم على أكتاف الشعوب. لعلها بالنسبة إلى شفيق الشاب المراهق أقرب الأفكار إلى روح الشباب التواق إلى الحرية، المؤمن بأن المستقبل حق للجميع من دون تفريق. يحلل شفيق ويعلل ويشرح مطولاً أسباب ونتائج وترسبات انتمائه إلى الحزب الشيوعي، يمر على تجربة الإبعاد عن بيته، ثم السجن والتعذيب سريعاً، كأن ما يشغله هو مسار الذكرى وصيرورة تشكل ما تلاها من مواقف وأفكار، لا الحدث نفسه، فمثلاً يبدو الاعتقال أمراً اعتيادياً، سهلاً وتبدو تلك الروح/ الهوية سليمة منه كأنه لم يمسسها بسوء.
في مرحلة لاحقة شكلت الهوية العربية نوعاً من ملاذ للهوية الجماعية الفلسطينية، وهذا أمر طبيعي مع محاولات الثبات والتخلص من الإحباطات والتشرذم والضياع، ونهوض فكرة القومية العربية في ستينيات القرن الماضي، مقابل فكرة وجود إسرائيل كعدو مناهض للعرب كلهم "هذا ما جعل الهوية القومية العربية تتعزز مرة أخرى بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بين الشعب الفلسطيني، مع انتشار الخطاب القومي والوحدوي في كل من مصر وسوريا، وربط تحرير فلسطين بالهوية القومية والوحدة العربية، وانضمام كثير من الفلسطينيين في جميع أماكن تشتتهم إلى الحركات والتنظيمات القومية العربية في مصر وسوريا والعراق وسائر البلدان العربية". ينتقد شفيق بحدة مواقف الفلسطينيين، ومواقف الشيوعيين منهم، الذين ناهضوا مشروع الوحدة ولم يروا فيه نصراً ممكناً لقضيتهم. هنا تتبدى صورة للأنا مغايرة لصورة الاضطهاد والقهر الجمعي، فلا تظهر مضطهدة مسلوبة القدرة، تائهة، عاجزة، بل هي تسعى إلى التجذر في التاريخ، فتجد في العروبة إمكانية تتيح لها "الاندماج في نسق من العلاقات القائمة المشتركة والمتفق حولها" وهو فعلاً ما يفعله شفيق إذ يشجع الوحدة العربية ويسعى إلى تمتين علاقات مع ما هو عربي "إن العبرة التي يمكن الخروج منها هي خطأ التحول إلى صراع محاور بسبب الخلافات السياسية أو الأيديولوجية مهما كانت جادة؛ فقد أثبتت التجربة التاريخية عبثية الانقسام إلى محاور عربية متضاربة متعادية"، منظراً لفكر توليفي همّه الوحيد الانتصار على الآخر الصهيوني، مركزاً في إمكانات ذلك الانتصار بشتى الطرق التي لا تتعارض مع الحق الأصيل لأي شعب في الحرية، "الفكرة هنا أن العقل التوليفي هو الذي يستطيع أن يجمع، أو أن يتبنى سياسة مزدوجة في آن واحد، وفي توازن دقيق بينهما. في الواقع الذي نعيشه، عدونا هو الكيان الصهيوني".
الكينونة الفلسطينية
الزمن عنصر أساسي في الكتاب، جعل الكاتب محنكاً لجهة اختبار الأفكار وغربلتها، ونقدها وتجربتها وتقويمها وإعادة صياغتها، كما لناحية الدفاع عن ثوابته وإعادة موضعتها والتأسيس لفكر متجدد، وكذلك لناحية القدرة على الاعتراف، والتعبير عن المشاعر وهذا لم يتوفر في الأقسام الأولى، حيث ساد عنفوان الشباب وتمسكه بأحقية أفكاره ورفض ما دونها، وإن كان حزن الأهل نتيجته. يبدو شفيق واثقاً وهو يحكي تنقلاته بين جمر الفكر، بل يبدو خارجها، وقد نضجت فيه وغربلها، وأصبح قادراً على تفنيد تلك التحولات وضبط إيقاع وجودها فيه والتقاط أثر مسارها في التاريخ، وتأثيرها المباشر أو غير المباشر على قضيته الأساس فلسطين.
يبدو نص شفيق، إذ يتمسك بالحاضر أو يحكي عنه ويحلله، يرسم ملامح كينونة فلسطينية معاصرة، تتشبث بالماضي بما هو تاريخها وقيمها، وفي الوقت نفسه تؤسس لحاضرها إذ هي تعيد تقييمه وتنتقده وتتجدد، من دون أن تجد غرابة في اللحاق بتيارات فكرية تلمح فيها قدرة على بلوغ الهدف، وما الانضمام إلى فتح إلا من باب ذلك السعي إلى التجديد. نحن أمام نص أصالته في البحث عن حاضر مشرق لقضية إنسانية.
لا يعني ذلك أن جدلية (الأنا-الآخر) قد انتفت، بالعكس فالحقبة التي شهدت العمل النضالي تحت راية فتح، بدت طويلة نسبياً في الكتاب، وأبرزت الأنا القيَمي المترفع عن التنازلات والمادة والمراكز في مقابل الآخر الفلسطيني هنا، الذي حين قبل التسوية مع العدو وقوى الإمبريالية وترك سفينة الثورة في مهب الريح وضع شعبه في قلب عاصفة من الأطماع والضعف والتشرذم، ولم ينج في المحصلة. يبرز شفيق ما عرفته الشخصية النضالية الفلسطينية من تحولات بسبب كثرة المال وعدم ترشيد إنفاقه أو إنفاقه فيما لا يعد ذا فائدة حقيقية لخط النضال. ورغم أن هذا القسم من الكتاب يظهر تآمر العرب وتخاذلهم عن نصرة قضية فلسطين، فإن شفيق يرى في تقاعس الفلسطيني السبب الرئيس في تحول مجرى الصراع، ويمهد للحديث عن ضرورة إيجاد فجوة في ذلك الجدار من القيم العبثية، التي نحَت بالقضية عن مسارها.. إنه جمر آخر.
تتبدى رؤى شفيق الذي وإن شعر بكبير انتماء إلى هوية فلسطينية جامعة لنسيج الشعب الفلسطيني، إلا أنه يحمل فكراً ينتقد ممارسات الفلسطينيين، التي تجعلهم عاجزين عن تشكيل صوت مسموع من العالم، وتالياً عن استرجاع حقهم في وطنهم. نقد تلك الممارسات يعني نقداً للفكر الذي أنتجها، للثقافة الحاضنة لها والمفرزة لفعلها
في الزمن. هو نقد للنهج السياسي ولثقافة الصوت الواحد والتبعية والخوف من التجديد، وعدم امتلاك لغة مشتركة واعية تنطق بقرارات تحقق للفلسطينيين أهدافاً مشتركة تصل بهم إلى النصر.
خطابه يبرز وعياً ينظم قصديته من النقد الموجه، فقناعته هي العودة دوماً إلى الأصالة، بالعودة إلى اللغة والجذور الممتدة في العمق العربي. النقد هنا ينضوي تحته نقد لكل ما كرَّس عبودية العربي للغرب، وكل ما كرس تقاعس الفلسطيني عن الإسرائيلي، الذي عرف كيف يبني منظومة فكرية أسطرت لوجوده الآني، في مقابل تسطيح العربي لوجوده التاريخي في لحم البشرية، وتسطيح الفلسطيني علاقته بجذوره العربية. لقد شهد شفيق ما خلفه ذلك النهج من إخفاقات امتدت حتى بلغت أوسلو. في علم الأرقام الرقم خمسة هو رمز التغييرات الجذرية؛ فهل صدفة أن يكون رقم الفصل الذي شهد بداية تحول فكري جذري في حياة الكاتب؟
المتأمل في كتاب شفيق يرى كيفية تشكل الأنا عبر مرورها في محطات وأزمات وصراعات نفسية وتجارب قيمية وأخلاقية نحتتها وصهرت معدنها، حتى أتت في صورتها النهائية حين بردت نار التجربة. وهنا تكمن الأصالة. فهل وجدها في جمر الإسلام؟ لقد أثر الاختلاف والخلاف على نشأة التمرد الفكري عند شفيق. بدا ذلك في المراحل الأسبق من الشيوعية إلى العروبة ثم فتح وبعدها حركة التحرير، وصولاً إلى حركات المقاومة الإسلامية التي أسس لها مع غيره من المناضلين، فهو يعي تماماً وهو يكتب أن اختلافه لم يكن عائقاً للاتفاق وبلوغ الهدف، إنما نظرة الآخرين المغلوطة، لأنها محكومة بإسقاطات فكرية منقوصة، ومرهونة إلى أجندات شخصية أو خارجية.
كلامه عن انحياز قوة عظمى كأمريكا إلى قوة مدمرة وكيان قائم على العنصرية والقتل كإسرائيل، يعبر عن بحثه عن سيرورة الحق في التاريخ والممارسة في الحاضر. حديثه عن تناقض الفلسطينيين أنفسهم في تعاملهم مع انحياز أمريكا، واكتفائهم منها بما يقيم حياتهم الخاصة، بمعزل عن صيرورة تشكل مسار الشعب الفلسطيني ككل واعٍ في اللحظة التاريخية الراهنة، محاولة لتغيير هذا الواقع، والثورة عليه، وهذا ما تفعله الأيديولوجيا بأصحابها، إذ تحدد علاقاتهم بمحيطهم العام، من خلال رفض أو قبول هذا المحيط، ومحاولات تغييره المتكررة وبشتى الطرق والممارسات المتاحة.
ينتقد شفيق بقوة ذلك التناقض الوجودي عند الفلسطيني، وهو في كلامه هذا يعتمد المنهج الطباقي في قراءته للحاضر والتاريخ، كي يتجنب السقوط في الاختزال ويضمن في الوقت عينه عدم تنافر الهويات على قاعدة التطرف التي يمارسها الطرفان: السلطة الأمريكية والفلسطينيون المتأمركون. هو يرفض نفي الذات والامتثال للاستبداد إذا لم يكن بديل إلا القمع والنفي أو على الأقل الإبعاد المعنوي من أي امتياز لمن كان ينتمي إلى فتح. بهذا الموقف يصرح بقناعته بأن دور المناضل أو المثقف المشتبك يكمن في تحدي السلطة بخلق خطاب يواجهها بالحقيقة، وانشقاقه عما هو مجمع عليه في المجتمع، فموقعه الحقيقي إلى جانب المستضعفين. كمثقف هاوٍ مستقل، كلما ابتعد عن السلطة تمكن من المناورة، وطرح الأسئلة الخطيرة في وجهها، وحطم النماذج المعدة مسبقاً لصور الفعل السياسي المقبول.
براغماتية تحسب للرجل، حيث صار لزاماً عليه وعلى الجماعة التي كان يكتب باسمها، وقد رفض مشروع السلطة، أن يجد حلولاً ناجحة تبقيه منها على بعدٍ ضامن للنجاة من ألاعيبها، وتمنحه حرية في التعبير والحركة. وهو لا يعادي النهج ولا من يمثلونه إنما يسجل رفضه ويجد لخطه الوجودي طريق حياة مختلفاً. شفيق أميل إلى تكرار نفي تهمة الانشقاق عن فتح أو معاداة ياسر عرفات أو أي من كوادرها. لكن رغم أنه يحكي تمسكه وإخوانه في التيار بخط فتح الأساس، فكلامه يصورها على أنها سلطة هوائية الأيديولوجيا، تبدو انتهازية وقمعية وتستغل سلطتها كي تبدو فاعلاً أخلاقياً وهي في الحقيقة مبتورة الأخلاق تزيف الحقيقة وتصبغ فعلها بألوان من مزاجية تتناسب والظروف والغايات، وسيلتها إلى ذلك تزييف الحقيقة وطمسها، وهي تالياً سلطة لا فكر في برنامجها الوجودي، وعليه فإن فكر شفيق ينكرها ويرفضها ويفضح خفاياها ومسارها ورؤاها، لا لذاتها ولا هي مسألة شخصية، بل لأنها تمثل انحراف الوعي عن مسار يحقق النصر الأكيد، ويمكن من مواصلة توجيه البندقية للعدو "أشعر أن كل ما كان يحصل وربما لا يزال.. لا يضرب على المسمار، بل يضرب على الحافر. المسمار هو الاحتلال".
وعى شفيق أن البندقية تحتاج عملاً سياسياً موازياً لها، وعلى قدر من الحنكة بل والدهاء كي يواكب الأطماع الإسرائيلية المتزايدة في فلسطين والعالم العربي ويتصدى لها. لقد فهم عميقاً أن صراع الوجود يحتاج إلى ما يرد محاولات الإسرائيلي الإحلال والإلغاء، وهذا لا يكون بالتسوية بل باستمرار المعركة على أرض الواقع، بالبحث عن حلول عملية لأزمة الوجود الفلسطيني، فهل هي مصادفات قدرية أن يتزامن كل انتقال فكري مع نزوع خارجي نحو ذلك الفكر أو وجود حقيقي له؟ هل هي صدفة أن يوصف فيما بعد بالمفكر الإسلامي؟
حين التفت إلى ضرورة تغيير مسار العمل الفلسطيني الثوري تطلع إلى صورة إيران، وواقع الإخوان المسلمين، وتغير موازين القوى العالمية. في الوقت نفسه كانت تجري نقاشات داخل التيار تقارن بين ما هو إنساني موجود في الإسلام كمواقف الموت والتعزية التي يفتقر إليها أي فكر يساري أو شيوعي تبناه مسبقاً.. والبحث عن الإنساني كان نقطة تحول نحو الإسلام. كما وجد موقف إيران ثابتاً من الإمبريالية الأمريكية، وعداوتها واضحة تجاه إسرائيل ونصرها أكيد عليها في لبنان وسوريا.
لا ينكر شفيق فيما يحكي ضلوعه في إحداث التغيير المنشود فلسطينياً وعالمياً، لكنه لا ينسبه إلى نفسه، ربما ذلك صحيح ولكنه نسبي إلى حد بعيد، فقدرته على إدارة الصراع من دون أن يمس قناعاته، مهما تبدل الجمر تحتها، ينسبها إلى الجماعة، ربما في هذا القسم من الكتاب، حيث التحول إلى الإسلام بدا أكثر راحة وهو يتعامل مع من يؤمنون بنهج المقاومة، وربما تربيته في البيت ونشأته في مجتمع فلسطيني وقناعته بعروبة فلسطين وبحثه في تاريخ الحضارة العربية سهل على الرجل اندماجه. لقد لقب شفيق بالمفكر الإسلامي، لكنه تناول قضايا فكرية من منظور مختلف عن السائد كقضية البنوك. يقول مثلاً: "في الحقيقة أني لم أتدخل في الفقه أو تأويل القرآن".
جروحٌ لا تشفى
كلما اقترب الكتاب من الاكتمال، شعرت بأن العاطفة تتبدى من دون ذلك الستر الذي تغشاها في المقدمات. فلا يغيب الأصدقاء وإن رحلوا، يعبر عن فقدهم ويوصي بأن يدفن بجوارهم "أما بالنسبة إليّ فقد كان جرحاً عميقاً لا يشفى" وهو جمر تقلب فوقه سنوات، وترك في قلبه أثراً لم تمحه السنون. ولا يغيب الإخوة، بل لعله يرثيهم متأخراً، يقول عن وفاة أخته سميرة: "افتقدتها وما زلت أفتقدها" ولا يغيب تأنيب الضمير ومحاولة الكاتب تطهير ذاته من عبء ما أثقل به فؤاد والديه، لكن عينه التي يجمعها بالفلسطيني مأساة وجودية واحدة تظل تدمع على شهداء آلاف العوائل الفلسطينية، ويعد ما أصاب عائلته "يدخل ضمن المستوى الأدنى من التضحيات التي قدمتها عشرات الآلاف من الأسر الفلسطينية".
لا يغيب الشعر كذلك وهو جمر يوقده حب القطمون في القدس فيكتبه مخاطباً أريجه ورياحه ويتمسك بها كي يتقوى على السجن "لكم طاب في السجن حلمٌ بقدس" ثم حب العائلة إذ يضمنه أولاً رداً على ضابط كان يحقق معه ووصفه بالقسوة لأنه لم يرحم أهله. فإذا به يعبر عن ألمه وشوقه وبكائه بعيداً عن البيت "أنا اشتياق لاهب وتحرق". ويقول كذلك في تبيان خصومة عرفات له: "وقالوا أنت مع عرفات حزب.. وقد كنت في عينه خصماً لدوداً" أن يكون خلف هذا الفكر النقدي، واللغة الموضوعية، والأسلوب الدقيق الشارح التفصيلي روح يسكنها الشعر فإن لنا أن نسأل من هو شفيق؟
لم يخل الكتاب من صورة المرأة، لكن النماذج التي ذكرها كانت مشعة وقوية، يبدو أنه عرف نساء على شاكلته، فأمه مثقفة ومتعلمة وزوجة محامٍ لامع، حاججت الذين اعتقلوه حين جاءوا بها لتضغط عليه كي يستسلم، زوجته غابت صورتها كما شاءت هي وصرح هو في لقاء رقمي أداره وليد شرارة لصالح مركز دراسات الوحدة العربية الشهر الفائت، أختاه مناضلتان جمعه بهما الفكر أكثر من جدران البيت، والمرأة الفلاحة التي اختبأ في بيتها كانت لماحة وعرفت أنه مقدسي، فهل يحقق الرجل معاني قانون الجذب في حياته لهذه الناحية؟
علاقة الكاتب بوالده صحية، لعلها كانت السبب في قوته، فصورة الأب الفذ الداعم المستقل المحامي المدافع عن الحق، تماهت معها صورة الابن العاشق للثورة، الذي لا يحيد عن الحق ولا يبدل تبديلاً. أما الأخ فلعله الوجع الكبير في روح شفيق؛ إذ سمح لقلبه أن يبوح بأنه لم يحزن عليه حين توفي كما يجب، وكما يحتاج وهو يحكي ذكرياته.
باقتدار يقدم الحدث ويوهم المتلقي بأنه بعيد منه كل البعد، كأنه يرى من علٍ أو من رؤية خلفية، ليست الذات فيها مصاحبة للحدث أو مشاركة فيه أو حتى فاعلة له، وفي الحقيقة هي أساس نشأته ومحوره. قدرته على المراوغة وطواعيته الخارقة على التشكل توحي بإضفاء قداسة على تلك الذات. مرد هذه القداسة بحثها عن تجميد التاريخ الشخصي بكونه فاعلاً في النظام العام وعنصراً قادراً على الديمومة حين يعبر عن أصالته، رغم تنوع الخليط المحيط وتبدل الأزمنة التي عبرها وتشكل خلالها.
منير شفيق ثائر على كل شيء، انتقد مجرة من المفاهيم والموضوعات والممارسات، في المجتمع والفكر والعروبة والسياسة. لا هو ماركسي، لأنه ناهض مادية المثقفين الماركسيين وكيف تحولوا إلى محافظين واستهلاكيين، ولا هو شيوعي رغم أنه آمن بقضايا المظلومين وانحاز إليهم وقد عبر عن اكتراث إلى المال كدليل على التمايز، ولا هو تقيد بخطاب السلطة، وحين لجأ إلى الدين أعطاه نظرته الخاصة في الكثير من القضايا، تنقله بين جمر الفكر، نأيه بالكتاب عن تسميته سيرة، مراوغته، ثباته، بحثه عن كل فعل نبيل للأخلاق يضعنا أمام روح متقدة جمرها لا ينطفئ، ونسأل أين ستمضي في رحلتها نحو الحرية؟ أم أن طريق الروح لا يكتمل إلا بالعودة إلى القدس؟
المصادر
عبد الدايم يحيى، الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث، م س، ص 3.
أبو الندا صقر، الهوية الفلسطينية المتخيلة، م س، ص7.
شفيق منير، من جمر إلى جمر، مركز دراسات الوحدة العربية 2021، ص 264.
المثقف الطباقي، إدوارد سعيد وغواية المنفى، مدونات الجزيرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.