من منّا لم تطربه كلمات "منتصب القامة أمشي" بصوت مارسيل خليفة وهو يؤديها بكل أنفة على المسارح!
تلك القصيدة التي تضجّ كلماتها بالكبرياء والشموخ، نظمها شاعر الثورة والمقاومة سميح القاسم، الذي، بأفول نجمه في 19 أغسطس/آب 2014، فقدت فلسطين والوطن العربي آخر صرح من ثالوث ما عرف بـ"شعراء المقاومة" في فلسطين، هم: توفيق زيّاد، ومحمود درويش، وسميح القاسم. هذا الثالوث الذي رفع لواء المقاومة بالقلم والكلِم من الداخل الفلسطيني، ولا تزال أشعارهم إلى اليوم خالدة تُلحّن وتُغنّى وتصدح بها الحناجر الثائرة المقاومة.
نشأته
لا غرابة أن يكون شاعر المقاومة، الذي ولد سنة 1939، ابن بلدة "الرّامة" الفلسطينية، التي يشتقّ اسمها من كلمة "رام" الكنعانية، والتي تعني "العالي"، فالعلوّ والشموخ سِمتان للقاسم ولأشعاره.
ولد سميح القاسم لعائلة درزية بالرّامة، حيث خطّ أولى كلماته بمدارسها، لينتقل بعدها إلى مدارس الناصرة. عمل القاسم بالتعليم بإحدى المدارس الفلسطينية، ثم تفرّغ لممارسة العمل السياسي ضمن "الحزب الشيوعي" قبل أن يتركه وينكفئ على العمل الأدبي الذي شكل فعل مقاومة بالنسبة له.
كان النشاط السياسي والشعري لـ"سيّد الأبجديّة"، كما يطلق عليه البعض، سبباً في اعتقاله وسجنه عدّة مرات وفرض الإقامة الجبرية عليه من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني، علاوة على طرده من عمله وتهديده بالقتل أكثر من مرّة، داخل فلسطين وخارجها. كلّ هذا لم يثن القاسم عن مضيّه في إعلاء صوته الثائر وسنّ قلمه المقاوم للاحتلال ومقاومته للتجنيد القسري الذي فرضه الاحتلال على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها.
ويُروى أن والد شاعرنا كان ضابطاً في قوّة حدود شرق الأردن، وفي إحدى رحلات العودة إلى فلسطين في القطار خلال الحرب العالميّة الثّانية، بكى الطفل سميح، فذُعر الركَّاب خوفاً من أن تهتدي إليهم الطّائرات الألمانية، وبلغَ بهم الذّعر درجة التّهديد بقتله ما اضطر والده إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم. وحين رُوِيَت الحكاية لسميح القاسم فيما بعد، قال: "حسناً، لقد حاولوا إخراسي منذ الطّفولة، سأريهم سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لن يقوى أحد على إسكاتي".
وكان القاسم من مؤسسي صحيفة "كل العرب" ورئيس تحريرها الفخريّ، إلى جانب إسهامه في تحرير "الغد" و"الاتحاد"، ثم ترأّس تحرير جريدة "هذا العالم" عام 1966، وترأّس اتّحاد الكتاب العرب والاتّحاد العام للكتّاب العرب الفلسطينيين.
أعماله الإبداعية
كثيرة هي الألقاب التي أطلقت على سميح القاسم، فمنها "شاعر المقاومة العربية"، "قيثارة فلسطين"، "متنبّي فلسطين"، "شاعر العرب الأكبر"، "شاعر العروبة بلا منازع وبلا نقاش وبلا جدل"، "الشّاعر القدّيس"، "الشّاعر المبدع المتجدّد دائماً والمتطوّر أبدا"، "مغنّي الرّبابة وشاعر الشّمس".. إلخ. فشعر القاسم كان ينبض عروبة ووطنية ومقاومة، ولم يبلغ عقده الثالث من العمر حتى نشرت له ستّ مجموعات شعرية نالت شهرة واسعة في الوطن العربي.
ولم يقتصر "قيثارة فلسطين" على الإبداع الشعري فحسب، بل اهتم كذلك بالرواية، وصدرت له رواية "إلى الجحيم أيها الليلك" ورواية "الصورة الأخيرة في الألبوم". كما اهتم بالفنّ المسرحي، فجعل من مهمّاته إنشاء مسرحٍ فلسطيني يحمل قضيّة ورسالةً فنيةً وثقافيةً، قادر على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
تميّزت مسيرة سميح القاسم بغزارة إنتاجه الأدبي وثرائه، وصَدَرَ له أكثر من 70 كتاباً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة. وصدَرت أعماله الكاملة في سبعة مجلّداتٍ عن دور نشر عديدة في القدس وبيروت والقاهرة، كما نُشر عدد كبير من قصائده بلغات عالمية عديدة كالإنجليزية، الفرنسيّة، التركيّة، الروسيّة، الألمانيّة، اليابانيّة، الإسبانيّة، اليونانيّة، الإيطاليّة، التشيكيّة، الفيتنامية، الفارسية والعبرية… إلخ.
ويحفظ السّجل الشعري لـ"متنبّي فلسطين" العديد من الإبداعات التي تغنّى بها كل الوطن العربي، على غرار قصيدة "منتصب القامة أمشي" التي لحّنها وغنّاها الفنان اللبناني مارسيل خليفة، وقصيدة "تقدّموا" التي غنتها الفنانة الفلسطينية سيدر زيتون، والتي يخاطب فيها القاسم جنود الاحتلال قائلاً:
" تقدموا
تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم
وتسقط الأمّ على أبنائها القتلى
ولا تستسلم
تقدموا
تقدموا"
وحصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير، إضافة إلى عضوية الشرف في عدّة مؤسسات دولية ومحلية، كما منح العضويّة الشرفية في عدّة مؤسسات إقليمية ودولية.
رفيق دربه الأزلي
خَطَوَا خطواتهما الأولى جنباَ إلى جنب، في الحياة والسياسة والشعر، ثم افترقا في الواقع، لكنهما لم يفترقا في الوجدان. بقي "شقّا البرتقالة الفلسطينية"، كما يطلق الكثيرون عليهما يقتربان حينا ويبتعدان آخر، إلى أن غيّب الموت محمود درويش، تاركاً الحصان وحيداً، ليمتطي سميح القاسم صهوته ويلحق برفيق دربه في العالم الأزليّ.
في سيرته الذاتية التي حملت عنوان "إنها مجرد منفضة"، يتحدث القاسم عن الملاحقات التي طالته من الاحتلال، وطالت رفاقه الشعراء، يتوقف أمام حيفا التي انتقل إليها، ليتعرف إلى محمود درويش، ليتلازم مصيراهما ومعاناتهما منذ تلك اللحظة، فقد عرفا معاً الملاحقة والاعتقال والجوع والتشرد.
وكان الشاعران رفيقين في "الحزب الشيوعي"، كما جمعهما العمل الصّحفي. إلى أن قرّر درويش الانسلاخ عن الحزب، وقرر في إحدى رحلاته إلى موسكو، السّفر إلى القاهرة عوض العودة إلى حيفا، ما شكّل نقطة فارقة في علاقة الشاعرين.
تبادل رفيقا النضال والجرح الغائر والهمّ الوطني الرسائل والقصائد والمعاتبة طيلة سنوات الفراق، وكتب القاسم معاتباً درويش قصيدة بعنوان "تغريبة"، قال فيها:
"للندنَ وجهان
وجه لحيفا
ونحن رفيقان
خصماً وإلفاً
يؤرّخنا الحب والموت
في دفتر الأرض
تغريبة للمهاجر
وتغريبة للوطن
ونفضي بأسرارنا للقباب
وننقش أحزاننا في القناطر
ونطلق من جرحنا عندليبا
يزلزل صمت الزمن
ونعجن بالدمع
خبزَ المجازر
أتذكر ضرعا شهياً
رضعناه دون شهيّة؟
وزيتونة غادرتنا كسائحة أجنبية؟
وعاشقة ما رحمنا هواها،
وظلت وفيّة؟
أتذكر أيام جُعنا معاً
وشبعنا معاً
ثم جعنا معاً
وعشقنا معاَ ثم ضعنا؟
سلام عليك
سلام عليّ
على الحب
يولد ثم يموت"
وكان العتاب الأخير الذي وجهه سميح القاسم لتوأمه في رثائه، قصيدة "خذني معك"، التي عاتب فيها القاسم درويش على رحيله قائلاً:
"تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟"
رحيله
بعد ثلاث سنوات من الصراع مع سرطان الكبد، امتطى سميح القاسم صهوة الحصان الذي تركه درويش وحيداَ ليلتحق بشطر البرتقالة الفلسطينية، تاركا إرثاً أدبياً عظيماً.
وكأن القاسم قد تنبّأ بأنّ شهر أغسطس/آب هو أوان الرحيل، فنظم قصيدة بعنوان "جلجامش"، قال فيها:
"يا شهرَ آبِ
هَلْ ظَلَّ لي سَفَرٌ على الأهْوالِ؟
هَل مِن مَغربٍ للشَّمسِ؟
لي (جلجامش المسحورِ)
هَلْ مِن مشرقٍ للشَّمسِ؟
لي (جلجامش المبهورِ)
هَلْ لي غيرُ هذا الصَّوتِ،
أَمتَحُهُ ويَمْتَحُني مِنَ الأعماقِ،
هذا الصَّوت: "سافِر في الإيابِ!"
مِن شهرِ آبِ
ولشهرِ آبِ
سافِرْ
ليحملَكَ الغيابُ إلى غيابِ..".
و"جلجامش" هي إحدى ملاحم حضارة بلاد الرافدين، تتمحور حول فكرة أن الخلود سمة تختصّ بها الآلهة، وأن الموت مصير حتمي لكل البشر، حتى بالنسبة لبطل مثل "جلجامش" الذي باءت محاولاته بقهر الموت بالفشل.
في الذكرى السابعة لامتطاء "منتصب القامة" صهوة الفرس، يبقى سميح القاسم مدرسة إبداعية في حياة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية التواقة للحرية، ويبقى "شاعر المقاومة" صرحاً أدبيّاً عصيّاً على النسيان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.