بينما كانت طالبان تسيطر على المدن الأفغانية واحدة تلو الأخرى مؤخراً، كان من المعلوم في الوقت ذاته أن مفاوضاتها في الدوحة مع الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية لا تزال مستمرة أثناء ذلك. المفاوضات ذاتها كانت سارية المفعول حينما دخلت طالبان إلى العاصمة كابول بشكل أسرع بكثير مما كان متوقعاً، مما جعل المشهد متناقضاً للوهلة الأولى. لكن لا بد أن تكون هناك خطة أمريكية قيد التنفيذ في هذه القضية. من الواضح أنها تركت أفغانستان لطالبان، ولا بد أن يكون هذا التخلي تقف وراءه حسابات أعمق وأشد مكراً بكثير مما يبدو.
ماذا يمكن أن تكون تلك الحسابات يا تُرى؟ هل تتعلق بالصورة النمطية لحركة طالبان، وهل يمكن أن تكون المشاهد المروّعة التي ستنتجها في جميع أنحاء العالم باسم الإسلام والشريعة سبباً لتشكيل بيئة شرعية لموجة إسلاموفوبيا جديدة؟
هل يستحق هذا السيناريو المفترض كل ذلك، لدرجة أن تخاطر الولايات المتحدة بتدمير ليس شرفها العسكري وكرامتها كإمبراطورية، بل بشخصيتها والثقة بها؟
أيّاً كان ما جرى، فإن ما شهدناه كان مشهداً واضحاً للغاية لهزيمة الولايات المتحدة. هذا المشهد وما يحويه من علامات بارزة بات محفوراً في أذهان العالم كدليل على انهيار الأسطورة الأمريكية بشكل تام.
المشهد الذي عرض حشوداً تتسابق نحو المطار، ليس الجنود الأمريكيين فحسب، بل إلى جانبهم جميع من تعاون مع الولايات المتحدة طيلة 20 عاماً خلت، سواء في المطار أو عبر الحدود، يحكي بوضوح شديد أن من يثق بالولايات المتحدة ويتعاون معها ضد بلده سيدفع في النهاية ثمناً باهظاً يفوق الحسبان.
من ذا الذي يبدو مستعداً للتعاون مع الولايات المتحدة ضد بلده من جديد، بعد تلك المشاهد؟
هذا أحد الأبعاد الأكثر أهمية في الأمر. لكن مع ذلك لا يزال البعض حتى اللحظة يدلي بتعليقات تغذّي "الأسطورة الأمريكية"، على الرغم من انسحابها والانتصار الواضح لطالبان. وعلى الرغم من أن بايدن أوضح انسحاب قواته ودخول طالبان إلى كابول، بطريقة أكثر منطقية وعقلانية من ذلك بكثير، حيث قال: "لقد منحت الولايات المتحدة حكومة أفغانستان كل ما تحتاجه. ساعدنا في تأسيس جيش نظامي قوامه 300 ألف مقاتل قمنا بتدريبهم. كان بإمكانهم محاربة قوات طالبان التي تبلغ 75 ألفاً. لم يكن من الواجب عليهم أن يستسلموا أو يفرّوا دون قتال. لقد استسلم القادة السياسيون وفروا خارج البلاد، كما أن الجيش الأفغاني رفض القتال. وعلى الجنود الأمريكيين ألا يحاربوا أو يُقتلوا في حرب رفضت القوات الأفغانية خوضها".
ماذا تريدون منه أن يقول أكثر من ذلك؟
إن الشيء الذي وثقت به الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، بل وثقت به حركة طالبان ذاتها خلال مفاوضات الدوحة، هو وجود قوة قوامها 300 ألف مقاتل. جميع الأطراف لم يكونوا يتوقعون استسلام تلك القوات، لا سيما أنها كانت إلى حد ما تمنع تقدم حركة طالبان أكثر من اللازم، لدرجة أن الحكومة الأفغانية كانت تستخدم ذلك كورقة رابحة خلال المفاوضات أمام طالبان. ولم تكن تتوقع الولايات المتحدة ولا حركة طالبان ذاتها أن تصاب تلك القوات الهائلة بانهيار نفسي جعلها تفضّل الاستسلام على مواصلة القتال أمام تقدم طالبان الأخير.
لقد تمكنت طالبان من الاستيلاء على 30 ولاية بما فيها قندهار ومزار شريف، قبل أن تتمكن أخيراً من الدخول إلى كابل. وعلى الرغم من ذلك لم تكن طالبان تضع في حسبانها دخول كابل، بل كانت ترى السيطرة على تلك الولايات ورقة رابحة خلال مفاوضاتها في الدوحة إلى حد كبير. لكن مع انتشار أخبار مغادرة رئيس البلاد إلى جانب وزير الداخلية والعديد من الوزراء والمسؤولين الآخرين، كان دخول طالبان إلى كابل تحصيل حاصل. لا سيما وأن المتحدث باسم حركة طالبان ذاتها صرّح بوضوح؛ "نحن أيضاً لم نكن نتوقع دخولنا إلى كابول".
أما على صعيد المرأة التي تعتبر أبرز القضايا التي تُذكر بها طالبان بمنحى سلبي، فقد قدّمت رسائل غير متوقعة إطلاقاً. لدرجة أن طالبان صرحت بإمكانية عمل المرأة في الحكومة، بعيداً إذن عن مسائل مثل حبس المرأة أو تعنيفها بطريقة وحشية.
لم يكن باستطاعة الرئيس الأمريكي أن يتوقع هذه النتيجة؛ حيث كان من المخطط تشكيل كيان سياسي تكون فيه طالبان بالطبع شريكاً أساسيّاً، ولم يكن من المتوقع ترك أفغانستان كلها بيد طالبان.
في نهاية المطاف تجسدت الحقيقة التي لم تكن في الحسبان. وسواء نظرنا من أي ناحية كانت، فإن هذا المشهد بالنسبة لطالبان يمثل نتيجة 20 عاماً من المقاومة الصابرة والحازمة. لقد نجحت طالبان في استقطاب غالبية الشعب الأفغاني إلى صفها بصمت وهدوء، مستغلة في ذلك حالة انعدام الاستقرار التي يعيشها الشعب، وتداعيات الاحتلال، فضلاً عن الفساد وسوء الإدارة، غير مكترثة بالدعايات والتصوّرات التي تُنتج ضدها.
ولذلك السبب، فإن كل مدينة دخلتها لم تدخلها بالقوة؛ بل دخلتها بالسهولة ذاتها التي دخلت فيها كابول؛ حيث كانت غالبية الناس ترحب بها في أي مكان تدخله. لا سيما أنها لم ترتكب المجازر أو تسفك الدماء في الأماكن التي دخلتها وسيطرت عليها، كما كان يتوقع البعض، كما لم تتسبب بإحداث رعب وخوف، ولم تُحدث تغييراً جادّاً في طواقم الإدارة، بل طلبت من الجميع أن يواصلوا أعمالهم من حيث توقفوا.
أما على صعيد المرأة التي تعتبر أبرز القضايا التي تُذكر بها طالبان بمنحى سلبي، فقد قدّمت رسائل غير متوقعة إطلاقاً. لدرجة أن طالبان صرحت بإمكانية عمل المرأة في الحكومة، بعيداً إذن عن مسائل مثل حبس المرأة أو تعنيفها بطريقة وحشية.
وعلى عكس ما يمكن توقعه من نجاح عسكري بهذا الحجم تحققه حركة ما، لم يحدث أي نوع من أنواع الانفلات الأمني في المدينة، أو حالات نهب وما شابه. على العكس من ذلك تماماً، ظهر قادة وعساكر من حركة طالبان داخل القصر الرئاسي، وهم يستمعون باكين خاشعين متواضعين للقرآن الكريم.
من الواضح أننا في مرحلة يتعين فيها على الجميع أن ينسى كل ما سمعه أو عرفه عن حركة طالبان.
أخيراً، سنواصل بالطبع متابعة المشهد القادم لحركة طالبان التي دخلت من جديد على جدول أعمال العالم بسرعة هائلة. وأثناء ذلك، إما أن نقول إن حركة طالبان تغيرت كثيراً، أو ندرك بدهشة أننا كنا ضحية للعديد من الدعايات والتصورات التي أُنتجت عن حركة طالبان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.