في حياة يومية مليئة بالضغوط والمشاحنات المعقودة في سلسال التنافس لا يتوقف سعي المرء منا عند بلوغ درجة محدودة، سواء كانت تلك الدرجة علمية أو مهنية، أو اجتماعية. ذلك السعي يحمل بين طياته "قلق السعي إلى المكانة".
على مدار قرونٍ عديدة لم تشغل مكانة المرء الاجتماعية حيزاً كبيراً من التفكير. كانت المكانة شيئاً غير ملموس، وكانت بالنسبة لعامة الناس مسألة قدرية، كما أشرت في الجزء الأول من المقال، تماماً كأن يولد المرء قصيراً أو طويلاً، قوياً أو ضعيفاً، أو أن يصاب بعض الناس بالأمراض المستعصية.
كان الرضا بالمكانة التي يولد ويموت عليها المرء أمراً نابعاً من إيمانه بوجود حياة أخرى في السماء سينعم فيها بكل ما حُرم منه. تلك الرؤية دعمها رجال الدين منذ قديم الأزل وحتى العصور الوسطى وما قبل عصر النهضة. ترويج تلك الرواية سمح ببقاء الهرم الاجتماعي ثابتاً وراسخاً بوجود رجال الدين والملوك والنبلاء في قمة الهرم مع التدرج في درجات النبالة والنسب وصولاً للقاع حيث الفقراء المعدمون.
سيأتي بعد ذلك عصر النهضة الذي سينفي فيه المفكرون والثائرون أي رواية دينية لها رواج اجتماعي تخص المكانة الاجتماعية للمرء. سيتم محو معظم الرؤى والآراء القائمة على مفاهيم دينية. ستدحض الروايات التي كانت تعزز من قيمة الفقراء معنوياً وتنسف مبادئ التآخي والإحسان بين الجميع.
عصر النهضة وما بعده
في منتصف القرن الـ18 بدأت قوى مجتمعية جديدة في الظهور رافضة للمبادئ الاجتماعية القديمة التي تجعل من المكانة الاجتماعية مسألة ثانوية مصوبة عيونها على نعيم الآخرة. بدأ الأمر حينما تم رفض الرواية السائدة التي تقول إن الأغنياء أشرار ولصوص، لن ينالوا السعادة والحبور في الآخرة كما الفقراء. استبدلت تلك الرواية بأخرى تدعي أنه لولا الأغنياء لسكن كل فقراء العالم القبور بلا أدنى أمل في حياة أفضل.
تغيّرت الرؤية فتغيّر العالم بأكمله، ومع تراجع مكانة رجال الدين وانتهاء أزهى عصور حكمهم مع نهاية العصور الوسطى، بدأ العالم بترسيخ قواعد جديدة تحتكم لقيمة المرء في المجتمع على أسس مادية.
قلق السعي إلى المكانة
عند سقوط توريث الألقاب والمناصب السياسية بات على الجميع البدء من النقطة صفر لتحقيق مكانة مناسبة في المجتمع. تنبع الرغبة في إثبات الذات للحصول على التقدير الكافي بين الجميع. لا تتوقف قيمة المكانة على التقدير الذي نحصل عليه في محيط عائلاتنا وأصدقائنا، يمتد مفهوم المكانة ليشمل علاقتنا مع العالم كله. لا تكاد التعاملات اليومية بيننا وبين الناس تخلو من السؤال عن تفاصيل المهنة التي نشغلها أو تفاصيل حياتنا التي تشمل مكان السكن وقيمة الراتب، ولا تخلو هذه الحوارات من الودية الظاهرة التي تُخفي خلفها مدى التقدير اللازم الذي سنحصل عليه بناءً على إجاباتنا.
في كتابه "قلق السعي إلى المكانة" يستيفض الفيلسوف البريطاني "آلان دو بوتون" في شرح وتحليل ظاهرة القلق موضحاً بداياتها ومراحل تطورها، ويعزي "دو بوتون" الشعور بالقلق لافتقاد الحب أو الشعور بعدم الكفاءة وغيرها من الأسباب، كما يطرح في كتابه تحليلاً في غاية الدقة حول مراحل تطور الحلول التي قد تخفف من قلقنا الدائم.
حسابات المكانة المادية
يرجع تاريخ نظر الفلاسفة إلى حسابات المكانة المادية باعتبارها "لا شيء" إلى زمنٍ بعيد، فمسائل الثراء والفقر بالنسبة للمذاهب الفلسفية لم تكن قائمة على حسابات المال في نظر أشهر وأهم الفلاسفة عبر التاريخ. كانت تعتمد على المكانة التي يحققها المرء برجاحة عقله وقيمة إنجازه في الشؤون الفلسفية أو الاجتماعية أو النواحي الحياتية الأخرى. كان "آرثر شوبنهاور" أحد أبرز فلاسفة القرن التاسع عشر واحداً من أولئك الذين لا ينظرون لقيمة الآخرين من حيث الفقر أو الثراء، بل إنه اعتبر أن من المستحيل الحصول على السعادة حينما ترتبط بنظرة الآخرين لنا.
وترجع تلك النظرة إلى زمن قديم حيث "ديوجين" و"سقراط" الذين لا يتم ذكرهم كأعظم الفلاسفة بسبب مكانتهم الآمنة مادياً أو ترتبيهم على درجات السلم الاجتماعي بل بإسهاماتهم الفلسفية التي أسعدت البشر على مر العصور في فهم أجزاء معقدة من الحياة.
الفن والأخلاق
تساءل البريطانيون في منتصف القرن التاسع عشر عن قيمة الفن، ما القيمة المادية التي يضيفها أو ما هي القيمة من وجوده بالأساس!
وهنا يمكننا طرح عدة أجوبة. ساهم الفن في تعديل منظور الرؤية غير الصحيح للسلم الاجتماعي، ساهم في توضيح صورة الفقراء ونفض الغبار عن صورتهم الحقيقية للمجتمع. تناول الفن الهموم المجتمعية في أكثر من صورة. وسواء كان نقد المجتمع قائماً كفكرة عمل روائي/ سينمائي/ مسرحي فإن الهدف الأساسي في النهاية هو نقد المجتمع الذي ينشأ أفراده على اقتناع تام أن مكانة الفرد قائمة على قيمته!
تقول الروائية "ماري آن إيفانس" والمعروفة باسم "جورج إليوت":
"إن لم يوسع الفن حدود التعاطف الإنساني فلا نفع له من الناحية الأخلاقية".
مرت مراحل عديدة باختلاف الزمن لتناول القضايا الإنسانية في صور فنية، تبرز الكوميديا في الأوقات التي تعاني فيها الدول من حكومات ديكتاتورية تضيق الخناق على الحريات بينما نمت التراجيدية قبل التاريخ ربما لحاجة المرء لتجسيد معاناة وجوده على الأرض بلا أي رغبة منه.
البوهيمية
في مطلع القرن التاسع عشر وفي ظل تصاعد وتيرة النمو والتطور الجمعي الإلزامي وانتشار الدعاية المكثفة لضرورة الهرب من الفقر المرتبط بأسفل ترتيب السلم الهرمي، قرر البعض الخروج من الدائرة النمطية واتباع مظاهر حياة تعتمد في باطنها وظاهرها على البساطة وعيش حياة بلا نمط على أطراف المدينة أو فوق أسطح البنايات، سيُعرف هؤلاء بانتمائهم للبوهيمية. نشأت هذه الجماعات للهرب من نمط الحياة السائد الذي نجحت الممارسات المنهجية السياسية تعميمه على الجميع ونجح تبادل الثقافات بجعل العالم قرية صغيرة تقع تحت نفس الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومع تراجع مكانة الدين وتراجع قيمة الرواية القائلة إن الفقر لا يعني بالضرورة مكانة أقل حسب الرؤية المسيحية، فإن اتباع البوهيمية أصبح هو النمط السائد لتخطي الشعور بالقلق نحو المكانة.
في الأخير يبدو لنا أن قلق المكانة شيء راسخ في الوعي الجمعي للبشر، بالإضافة لكونه وهماً راسخاً مرتبطاً بعدة ثوابت اجتماعية أثبتت التحولات التاريخية إمكانية تغييرها، بالإضافة لوجود القلق في قمة المشاعر الإنسانية وأكثرها شيوعاً فإن القلق الناجم عن حقيقة مكانتنا شيء نسبي قد لا تتربط دقته برؤية الناس لنا، ربما يكفي المرء اعتماده على العقل كمرآة حقيقية للنفس، ربما المكانة الحقيقية للمرء تكون بالأثر الذي قد يتركه في نفوس الآخرين أو في عقولهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.