في سبتمبر/أيلول 2019، وقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام الرأي العام المحلي والدولي، متحدياً خصومه السياسيين، الذين اتهموه بالفساد وإهدار المال العام على القصور الرئاسية الفارهة والمشاريع العملاقة غير ذات الجدوى قائلاً: آه هبني قصور، انتو هتخوفوني ولا إيه؟
في ذلك التوقيت، كانت الاتهامات نابعةً من الأساس من أحد رجال النظام، مقاول منشقّ، عمل مع الجيش والرئاسة مدة طويلة، ويعرف خبايا الكواليس؛ ولما اختلف مع النظام على تفاصيل مالية، فر هارباً إلى أوروبا، وبدأ يفضح النظام.
أثارت تلك الحادثة مفارقاتٍ عدة في الوجدان الشعبي المصري؛ فالسيسي الذي طالما عيّرَ المجتمع بفقره وروج لتقشفه الشخصي وثلاجته التي لم تحو غير الماء لسنوات وتمنى لو أن بمقدوره بيع نفسه من أجل الشعب المسكين، بدا في عيون البعض كما لو كان متهماً في قاعة المحكمة. والرجل الذي فضح ممارسات السيسي تلك، انطبقت عليه المقولة الشعبية: لم يروهم خلال السرقة، لكن رأوهم أثناء الصراع على تقسيم الغنائم المسروقة. كما حاول نفس الشخص، المقاول، أن يجمل صورته ويصور نفسه "روبن هود" الذي اصطدم بالكبار من أجل الغلابة.
رغم تحذيرات المستشارين والخبراء الأمنيين، قرر السيسي الصدام والمواجهة وعدم التراجع، والسبب في مخالفة تلك التوصية البيروقراطيّة واضح: لا يريد السيسي تقديم أي تنازلات. وصوته الداخلي يكرر كما أسمعه: أنا الزعيم، شاء من شاء، وأبى من أبى.
صوت الشعب
زلّتْ قدم السيسي ووقع في الفخّ. رفض السيسي أن يلعب "جيم" سياسياً، سواء بالتجاهل حتى هدوء العاصفة، أم بالإنكار. لا تجاهل أو إنكار، ولا صوت يعلو فوق صوت المواجهة. السيسي في مواجهة الشعب.
في تلك الأثناء، سلب السيسي من رجاله الأوفياء مناعتهم وقدرتهم على المقاومة؛ إذ كيف يمكن للإعلام أو أجهزة الأمن الدفاع عن حاكم ادعى طوال الأعوام الماضية أن الوطن فقير للغاية، ثم اعترف، بنفسه على نفسه، أنه يبني قصوراً فارهة هنا وهناك، بحجة كونها جزءاً من الدولة الجديدة التي سيحكي عنها العالم، على حدّ قوله.
في سبتمبر/أيلول 2019، تهيأت الظروف المثالية لخروج الجماهير على الطاغية: السيسي في نيويورك، خارج البلاد، لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورجال النظام في حالة هستيريا عامة بسبب عدم قدرتهم على الدفاع عن الرجل الأول بعد اعترافه على نفسه، والأجهزة الأمنية معنوياتها في الحضيض كما يقال. وصفة مثالية لخروج الجموع الغاضبة.
بينما كان السيسي في الولايات المتحدة، يتودد لصديقه في هذا التوقيت، دونالد ترامب، اندفعت فئات كثيرة غير مسيسة من الشعب المصري بهتاف واحد: الشعب يريد إسقاط الرئيس. لم تهتف الجماهير ضد أي من مؤسسات الدولة العميقة. فقط ضد السيسي، الذي مُزقت صوره لأول مرة، وبدا أن أجهزة الأمن التي لم تغير انحيازها بالطبع عاجزة، نفسياً، عن ممارسة قمعها المعتاد.
اكتمل المشهد المطلوب. المقاول متواضع التعليم هزم الرئيس العسكريّ. شعبية الرئيس ليست كما يروج الإعلام. الرئيس فشل في الدفاع عن نفسه أمام اتهامات خصومه. الشعب لم يعد يصدق الرئيس وأحاديثه عن الفقر والعوز، كما اعتاد التسويق دائماً.
هنا، أدرك السيسي أن سياسة الصدام الصفريّ وتحدي الجماهير ليست مجدية، وبدأ، بمجرد عودته من الخارج، يقدم القرابين للجموع الغاضبة: عودة نحو مليوني مواطن إلى بطاقات الدعم السلعيّ بعد حذفهم خلال خطة تنقية تلك البطاقات، وخفض سعر المحروقات لأول مرة منذ يوليو/تموز 2013، وتحول نواب البرلمان، لساعات قليلة، إلى صوت الشعب، ضد الحكومة طبعاً، لا ضد الرئيس.. ولكنه كان تغيراً ملحوظاً.
سبتمبر الآخر
بعد مرور عام بالتمام والكمال على تلك السابقة الفريدة، ذعر النظام وتراجع الرئيس، عاد نفس المشهد السقيم مجدداً. يجلس السيسي، ظهره إلى رجال الدولة، وهو في المقدمة، قابضاً على الميكروفون، وموبخاً الجماهير ومتحدياً إياهم: سأدفعُ برجال الجيش إلى المواجهة، بجانب رجال الشرطة، لهدم البيوت المخالفة على رأس أصحابها، إذا لم ينصاعوا إلى قانون التصالح.
إذا، تحدٍّ جديد واستفزاز من الرئيس للشعب. سأهدمُ بُيوتكم فوق رؤوسكم، بقانون غير دستوري، لجباية الملايين من جيوبكم، بأثر رجعيّ، إما الدفع وإما الهدم. لا مجال للتفاهم. "أنا جبت معدات تنزل القرى تبيد الكلام ده كله"، قالها الرئيس.
لبى الناس دعوة الرئيس، فلتهدمِ البيوت فوق رؤوسنا، سنموت داخلها. وبالفعل، بدأت اشتباكات عديدة بين قوات الأمن التي جاءت بأمر الرئيس للهدم وبين المواطنين المطلوب منهم الإخلاء، ويبدو أنّ السكان كان لهم رأي آخر. لا إخلاء إلا على جثثنا.
في أماكن عدة من الجمهورية، حاصر المواطنون قوات الأمن عددياً، ما اضطر قوات الأمن إلى مخالفة أوامر الرئيس وتجنب الاشتباك مع المواطنين، خوفاً من الخسائر المتوقعة من الطرفين.
وفي سبتمبر/أيلول 2020، خرج سكان الريف الذين توعدهم السيسي بالإبادة، بالعصي والجلاليب، شباباً وأطفالاً، مشتبكينَ مع قوات الأمن المصرية بالحجارة والحناجر وقطع الطرق وحرق سيارات البوليس، في مشهد مهيب؛ رغم محاولة رجال النظام تفسيره أو التقليل منه أو احتواءه، دون جدوى.
هنا أيضاً، أدرك السيسي أن عواقب الصدام ستكون وخيمة، وبدأ في التراجع مرة أخرى، مقدماً تسهيلاتٍ جذرية للمواطنين، كي يقنعهم بالتصالح، دون أن يتراجع عن القانون نفسه حفاظاً على هيبته، ولكنّ الحقيقة أنه فرغ ذلك القانون المعيب من مضمونه، أمام ضغط الناس.
خفض السيسي سعر المتر على التصالح إلى نحو 50 جنيهاً فقط، وجعل مدد قبول ملفات التصالح مفتوحةً تقريباً، وقدم تسهيلات نوعية أخرى، إلى حدّ أنه قال إن أي مواطن سيقدم أي أوراق تثبت جديته للتصالح، ستكون مقبولة.. فكانت هزيمة سياسية أخرى للسيسي!
الصراع على رغيف العيش
بنفس الانفعال المصطنع ونفس الأزمة المفتعلة في نفس التوقيت كلّ عام، صرخ السيسي، بنفس الجلسة، في المواطنين، معلناً نيته رفع سعر رغيف العيش المدعم، قائلاً ما معناه: أنا أتحمل المسؤولية، لا الحكومة، محدش يقولي متقربش من العيش، لأ هقرب.
لعقود طويلة، كان رغيف العيش بالنسبة للمصريين خطاً أحمر. يتودد الرؤساء، بمن فيهم السيسي، إلى الشعب، بين الحين والآخر، بتصريحات مفادها، أنه بالرغم من تكلفة رغيف العيش على الدولة، فإنها لا تفكر أبداً في رفع سعره.
ولكنّ السيسي تحدى، مشيرا إلى أنه ليس الرؤساء السابقين الذين كانوا يخشون على كرسي الحكم من غضب الناس، لا مجال لمزيد من المهادنة والدلع والطبطبة، إحنا نجوع بس نبني بلدنا ونعمل مستقبل لأولادنا، بنصّ كلام السيسي.
نسي السيسي، فيما يبدو، أنّ الأيام أظهرت للناس أن من يجوع في هذا الوطن هم الفقراء وحدهم، بينما لا تطال الإجراءات التقشفية غالباً علية القوم، كما تجاهل في غمرة استبداده أن رغيف العيش بالنسبة للمصريين ليس مجرد أكلة والسلام، وإنما منتج ثقافيّ، شيء من الهُوية، طالما أنّ الرغيف في البيت، فالجميع في أمان من الجوع، حتى لو لم يكن هناك "الغموس".
كما نسي أيضاً فيما يبدو أنه قد رفع الدعم تقريباً عن كافة أساسيات الحياة، كالفواتير الشهرية والمحروقات، بل ورفع سعر رغيف الخبز ضمنياً عندما خفض وزنه إلى 90 غراماً قبل أشهر قليلة، بعد ما أثقل كاهل المواطنين بأنواع شتى من الضرائب والجبايات.
ولم يتذكر فقط، سوى أنّ ثمن 20 رغيفاً من الخبز تعادل ثمن سيجارة، وأنّ دعم العيش مستمر على حاله منذ عقود، وأنّ تغذية الطلاب لا حلّ عمليّ لها من الموازنة إلا تجويع أهاليهم وحرمانهم من العيش المدعوم، بعد العودة من المدرسة.
تكرار اللعبة
من يتأمل في لهجة السيسي وخطابه ولغة جسده ونبراته وتنغيمه في مؤتمر إعلان نية الدولة اتخاذ قرار برفع سعر رغيف الخبز، سيشعر، كما لو أن الرجل يكنّ غضبًا على المواطنين. عذاب محض، كما وصف نفسه في أحد التسريبات من قبل، وأنّ خطة رفع سعر الرغيف جاهزة للتطبيق على الفور.
وبالفعل في صباح اليوم التالي مباشرة، أعلنت شعبة المخابز الامتثال إلى توجيهات الزعيم، ورفع سعر رغيف الخبز، وإعادة قيمته وهيبته، على حد وصفهم، بمضاعفة سعره 3 مرات، فبدلاً من أن يشتري الجنيه الواحد 20 رغيفاً، سيشتري فقط 5 أرغفة.
هذا القرار بمثابة إعلان حرب على المواطنين. إيذانٌ بتجويع ملايين الأسر في الريف والصعيد وأطراف المدن التي يحميها الرغيف من ذلّ الطلب ومدّ الأيادي أو الموت جوعاً في بعض الظروف. يجوع ناس ليشبعَ آخرون.
لذلك؛ فإنه قرار مرفوض شعبياً من كل الفئات وكلّ الأعمار، يتساءل الناس: ماذا تبقى لنا من رعاية الدولة إذا قررت أن ترفع الدعم عن الخبز؟ لقد نُزعت البركة من الحياة، في الوقت الذي لم نعد فيه قادرين خلاله على شراء الخبز.
في هذا التوقيت، تنصح الأجهزة الأمنية السيسي بعدم الانصياع إلى رغباته التي قد تتسبب في أذى كبير لما تبقى من الدولة والمجتمع، ويجادلُ السيسي: ألا أبني لكم ريفاً جديداً مزوداً بخدمات الإنترنت؟ ألن أغذّي أولادكم في المدارس؟ ألا تحبون بلادكم وتضحونَ من أجلها؟
ولكنه في الوقت نفسه لا يزال متردداً، يعلق القرار، خوفاً من غضب الشارع، الذي في كلّ مرة كان يتخذ شكلاً جديداً مفاجئاً ولكنه أيضاً كما تعود، عازم على تنفيذ القرار؛ فإن لم يكن رفعاً كاملاً للدعم عن الرغيف مرة واحدة كما يتمنى؛ فليكن إذا رفعاً جزئياً متدرجاً حتى يتم تحرير سعر الرغيف كاملاً، كما تم تحرير سعر المحروقات والخدمات والعملة.
الدرس الذي يجب للمواطنين تعلمه من المرات السابقة، أنه على قدر احتجاجكم ورفضكم للقرار ودفاعكم عن حقوقكم، سيكون السيسي رفيقاً بكم في "كيفية" تطبيق القرار: توقيته، وحدوده؛ فإذا لم يكن بدٌ من الزيادة، فلتكن قروشاً بسيطة، بعد وقت طويل، بدلاً من السعر المقترح تطبيقه بشكل فوريّ. على قدر الغضب، تكون التسهيلات، تماماً كما حدث في سبتمبر/أيلول، مرتين على التوالي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.