الإنسان المقهور والزعيم الشعبوي.. قصة حب لا تنتهي

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/18 الساعة 11:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/18 الساعة 12:44 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيّد

يذهب المفكر جابر الأنصاري في كتابه "العرب والسياسة: أين الخلل؟" إلى أن التحدي الموضوعي الأكبر أمام الديمقراطية في العالم العربي هو أن أية قوة سياسية أياً كانت أيديولوجيتها وشعاراتها المعلنة لا بد وأن يتحكم فيها في واقع الأمر القاع الاجتماعي الذي تنتمي إليه، واتباعاً للمنهج نفسه يقوم عالم النفس الشهير مصطفى حجازي بتفسير سيكولوجية -نفسية- الإنسان المقهور بناءً على الواقع الاجتماعي الذي يعانيه. 

ذلك المنهج وتلك الإطلالة تساعدنا في فهم وتفسير بروز الشعبوية وانتكاسة الديمقراطية في الوطن العربي. الانتكاسة التي تجلت مؤخراً في الحالة التونسية بانقلاب الرئيس قيس سعيد على برلمان الدولة المُنتخب، وتفسير الدستور وفق هواه. تساعد تلك النظرة أيضاً في تحليل وشرح وضع المجتمعات بعيداً عن أي نظرات جوهرية استشراقية تختزل التفاعلات الاجتماعية داخل المجتمعات، وتردها إلى خلل أساسي قابع في المركز، كأن يُقال في أروقة الأكاديميات الغربية إن الخلل في الوطن العربي يُرد إلى طبيعة الإسلام ذاتها. وتعد تلك النظرية سطحية وتتغافل عن الكثير من الأمور، فليس الوطن العربي فقط هو الذي يعاني من أزمة مع الديمقراطية، فظاهرة الشعبوية يمكنها أن تُولد في أي مجتمع شرط أن تتوافر لها سمات معينة، وأولها القهر. 

الإنسان المقهور والزعيم الشعبوي

بالإمكان تعريف الشعبوية بأنها نهج سياسي يضع الشعب بالضد من النخبة السياسية والاقتصادية المهيمنة، بعد أن يسود الشعور بالتهميش والاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي في أوساط عامة الناس، بفعل سياسات نظام الحكم وفشله في بناء وإرساء قواعد الحكم الرشيد، حتى وإن كانت عملية تسلم السلطة فيها تجري بطرق ديمقراطية، فإن ذلك الشعور العام يُعد بمثابة الدافع الجوهري وراء النفور الشعبي من السلطة السياسية وسياساتها العامة، والذي يشعر فيه المواطنون بحالة من الاحتقان والدونية. 

تميز مشاعر الدونية موقف الإنسان المقهور من الوجود، فشعوره الدائم بعيش حالة عجز إزاء قوى الطبيعة وغوائلها، وإزاء قوة السلطة على مختلف أشكالها، يشكل شعوره بحالة مستمرة من الضعف والتهديد الدائم لأمنه وصحته وقوته. وهو ما يجعل الإنسان المقهور عاجزاً عن المجابهة، وتبدو له الأمور وكأن هناك باستمرار انعداماً في التكافؤ بين قوته وقوة الظواهر التي يتعامل معها، وهنا تنتج أزمة ثقة بالنفس تُعمم منه على كل الآخرين أمثاله، ويصل الأمر إلى حد انعدام الثقة بقدرة الجماهير على الفعل والتأثير، ما يلقي به وبشكل نكوصي في الاتكالية على منقذ منتظر بشكل سحري، وصورة هذا المنقذ هي على العكس تماماً من صورته عن ذاته، فيعد ذلك المنقذ الأب نافذاً ومتمتعاً بجبروت كفيل بقلب الأمور رأساً على عقب، وحاملاً للخلاص العاجل. 

إن ذلك الموقف يراه مصطفى حجازي تمهيداً سينتج عنه بديهياً تهيئة الجماهير إلى التعليق بالزعيم الفرد، تعلقاً يغري بالتسلط والدكتاتورية، تحت شعار إنقاذ الوطن وخلاص الجماهير، نظراً لما يعانيه إنسان العالم المقهور من حالة كفر بالجماهير، وعدم انتظار أي شيء يذكر من تلك الجماهير المقهورة على غراره، وتشاؤمه بأنه لن تأتي أي حالة تغيير على أيدي تلك الجماهير العاجزة، وكل ذلك يشكل عقبة فعلية إزاء تحريك الجماهير وتعبئتها لأغراض النضال والتغيير الاجتماعي. 

أبطال الإنسان المقهور عديدون، يشكلون سلسلةً متصلة من الحلقات تنتقل بسلاسة من الأسطورة إلى الواقع، وكلهم على الدوام يتصفون بالخصائص نفسها: الجبروت والقدرة على تغيير الواقع المؤلم أو الخروج من المأزق، الشعور بروابط عاطفية وثيقة تربط الإنسان به، وإحلاله في دور الحامي والمدافع عن المقهورين.

وتعد علاقة المقهور بالزعيم المنقذ هي علاقة سحرية، فالزعيم يمثل الأمل في الخلاص السحري من مأزق يشعر المقهور أنه لا خلاص منه بجهده الشخصي. إذ يحلم بأن ينام ويصحو ليجد أن الوضع قد تغير بين ليلة وضحاها، وهذا ما يميز ظاهرة الانقلابات العسكرية التي تنتشر بشدة، ولا تلبث أن تحصل على شرعيتها من الجماهير في غضون أيام قليلة. 

مشكلة تلك الوضعية أن الإنسان المقهور يراهن على خلاصه على يد الزعيم المنقذ، دون أن يعطي لنفسه دوراً في السعي وراء هذا الخلاص سوى دور التابع المعجب المؤيد دون تحفظ، وهو يشتط في ذلك حتى يصل به الأمر إلى ازدراء إمكانات العطاء عند الجماهير، وتلك هي المشكلة الحقيقية. 

إن الخطر الذي يقع فيه "العالم المتخلف" كما يراه مصطفى حجازي أن تحول الزعيم المنقذ من قائد يحرك الجماهير، إلى بطل أسطوري ينخرط في وهم التغيير، ويدفع أتباعه إلى موقع الإعجاب والتفرج والتأييد الطفولي الإمعي، الخطر هو في انتشار صورة البطل الأسطوري، فهذه الوضعية مأزقية بالضرورة لكل من الزعيم والجماعة على حد سواء، فالزعيم لا بد له أن يفشل، ويتكرر فشله ويتراكم عجزه مفجراً التناقضات بينه وبين جمهوره، فإذا أصر على بقائه في سدة الزعامة وأصر على نهجه رغم فشله، سيتحول إلى متسلط، ولا بد له من اتخاذ القمع وسيلة للاحتفاظ بمركزه، وهذا هو ما يرسخ الرابطة في العالم العربي بين الشعبوية والاستبدادية. 

نُخب ومهمّشون

لا يتكون الخطاب الشعبوي في المجتمعات المقهورة في الفراغ أو يُخلق من العدم، أو ضد عدو متخيل يمكن حشد الشعب ضده، ولكنه يتكون كمُجابه للمجموعات من الحراكات السياسية في المجتمع، والتي يمكن إعادة إنتاجها في الخطاب الشعبوي بصفتها نخبة تسيطر على مقادير وأرزاق الشعب يجب تحطيمها من أجل المضي قدماً.

إن الشعبوية بصفتها ثورة ضد النخبة تزعم أن السياسة أمر سهل، ويمكن إدراكها وممارستها من قِبل الجميع، وإن اعتبار السياسة مسألة معقدة ليس إلا مكيدة وضعها النخبة لإبقاء المواطنين العاديين خارج دائرة المشاركة السياسية وصناعة القرار، وهذا ما يجتذب الجماهير إلى صفِّ الحاكم الشعبوي، حيث يمثل هو كفرد واحد آت من خارج المنظومة، تمثيلاً لأحلامهم وقدراتهم على المشاركة السياسية والتحكم في المصير، كما طالب قيس سعيد المواطنين بتحمل المسؤولية "معاً"، وأن تونس ليست غنيمة "لأحد".

الأمثلة في التاريخ كثيرة، وهي تتوزع في العديد من القارات والمجتمعات التي تشاركت القهر والفقر، بدايةً من المثل الأشهر الذي يجسده أدولف هتلر الذي استطاع حشد الشعب ضد اليهود، باعتبارهم تجسيداً للشر المطلق المتمثل في الشيوعية التي خانت الإمبراطور أثناء الحرب، وتسببت في هزيمة ألمانيا وسقوطها إلى الهاوية، لتتسبب في كل ما تعانيه ألمانيا من مشاكل اقتصادية واجتماعية، كانت نتاجاً للهزيمة في الحرب العالمية الأولى. 

وفي آسيا يتجلى مثال سوهارتو في إندونيسيا، القائد العسكري الذي انقلب على الرئيس سوكارنو، واستغل الإسلام في خطاب شعبوي حماسي لحشد المواطنين ضد الشيوعيين والجالية الصينية، واعتبارها السرطان الذي يأكل جسد المجتمع الإندونيسي واقتصاده وهويته. 

وفي إفريقيا تتعدد الأمثلة، ومثالها الأبرز الرئيس عيدي أمين في أوغندا، الذي أرجع مشكلات المجتمع الأوغندي كلها إلى الجالية الآسيوية الهندية، التي تتحكم في مقادير الاقتصاد، فما كان منه إلا أن حشد الشعب ضدها، ثم همّ بعمليات واسعة لتأميم شركاتها وأملاكها، وتهجيرهم إلى بلدهم الأصلي في الهند.

في الوطن العربي يوجد مثال متكرر يتحمّل عبء إخفاقات المجتمع، يمكن للخطاب الشعبوي أن ينبني عليه دائماً، وهي حركات الإسلام السياسي، والتي تمت التضحية والإطاحة بها في ظاهرة متكررة، حدثت أخيراً في تونس وانقلاب القصر على البرلمان، الذي يشكل أغلبيته حركة النهضة الإسلامية، التي تم تصديرها في الخطاب الشعبوي بوصفها محتكراً لثروة البلاد في جيبها الخلفي، وتسبب إخفاقها المتكرر في تسيير الدولة إلى زيادة الفقر وزيادة الهجرة. 

إذن يعد الاقتصاد والنمو الاقتصادي ركيزة أساسية في الخطاب الشعبوي، وهو ما يفسر بروز الشعبوية على السطح في الوطن العربي من حين لآخر، في منطقة من أفقر الاقتصاديات في العالم، فهو خطاب يعد بمصادرة الثروة، وإعادة توزيعها على الشعب مرة أخرى إذا نجحنا في إقصاء النخبة المسيطرة. 

يتحكم النمو الاقتصادي في مسارات التحشيد الشعبي ودعم شرعيات الأنظمة، يمكن للنمو الاقتصادي أن يسبغ الشرعية على الحكومات التي تنجح في تعزيزه، فقد حافظ كثير من البلدان سريعة النمو في شرق آسيا مثل سنغافورة وماليزيا على الدعم الشعبي، رغم غياب الديمقراطية الليبرالية، لهذا السبب، يمكن بالعكس، أن يساهم مسار النمو الاقتصادي المنخفض والإدارة السيئة جراء الأزمات الاقتصادية أو سوء الإدارة المالية أن تزعزع الاستقرار كما حدث لديكتاتورية إندونيسيا بعد الأزمة المالية بين عامي 1997-1998. 

وتعتمد شرعية الأنظمة أيضاً على توزيع منافع النمو وفوائده، وكثيراً ما يحشد النمو الذي تجني مكاسبه قلة أوليغارشية تتربع على قمة المجتمع دون أن توزع على الجماهير العريضة، فئات اجتماعية ضد النظام السياسي الحاكم، وهذا ما عرّض شرعية الكثير من الأنظمة الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم للاهتزاز، فكما حدث في فنزويلا وبوليفيا فقد تم تحدي الديمقراطية عن طريق انتخابات ديمقراطية ذاتها أتت بزعماء شعبويين مثل هوغو تشافيز، تكونت قاعدتهم السياسية من الفقراء والجماعات المهمشة، وهو ما حدث في تونس مؤخراً، وهو ما يؤكد أن الديمقراطية ليست حصانة ضد الشعبوية، فالديمقراطية إذا أخفقت في تمثيل الشعب وإدماج فئاته في السلطة ستخفق ديمقراطياً على أيدي زعماء شعبويين يختارهم الغالبية.

إن معظم جمهور الخطاب الشعبوي هم من الأُميين والفقراء، خصوصاً بالمناطق الحضرية، أي الشرائح الاجتماعية التي وصفها كارل ماركس بالبروليتاريا الرثة أو قاع المجتمع، وهو ما يميز الخطاب الشعبوي في العالم الثالث والوطن العربي الذي ينتشر فيه الفقر إلى جوار الأمية، وهو ما يُسهل أمر تضليلها وحتى إغوائها بغية دفعها نحو المغامرة والفوضى، ولكون هذه الطبقة المهمشة تعيش في بيئة مجتمعية من التهميش الحاد وعدم الرضا الشديد، وبالتالي يحاول الشعبويون استغلال استيائها وعدم رضاها عبر الحديث عن الوضع الاقتصادي من خلال التشديد على التفاوتات الاجتماعية الحادة، والحديث عن الانحطاط الأخلاقي والقيمي في المجتمع، وفقدان القيم المرجعية والهوية الوطنية، وتراجع الطابع المدني، وبالتالي تراخي الرابطة الاجتماعية وتفككها، ويعد ما هو جوهري في الخطاب الشعبوي ليس دفع الجمهور إلى التأمل والتفكير، بل حشدهم ودفعهم للانخراط في السياسة كمؤيدين ومتحمسين لدعاة الخطاب، ولاسيما إذا كان المؤيدون ينتمون أصلاً إلى مجموعات مهمشة غير مبالية.

الزعيم الأب 

أهم ما تشترك فيه الحركات الشعبوية هو إلغاؤها للمؤسسات الوسطى من أحزاب سياسية وهيئات ثقافية ونقابات مهنية، تخترق المجتمعات، عامودياً أو أفقياً، ولا تعترف الحركات الشعبوية في النهاية إلا بثنائية واحدة، هي: رئيس منتخب من الشعب، وحده هو الذي يمثله ويدافع عن مصالحه.

في أعقاب الانقلاب قام قيس سعيد بجولة شهيرة ذات معنى رمزي في الشارع التونسي الأهم، الذي يضم العديد من الوزارات، ويحمل اسم "الحبيب بورقيبة" مؤسس الدولة التونسية الأمنية الراسخة، والتي رغم مساهماتها في تعطيل الحراك الديمقراطي في تونس يساري أو إسلامي على حد سواء، ظلت تحتفظ بمكانة راسخة في الذاكرة التونسية، بصفتها دولة الأب الراعي المؤسس الحبيب بورقيبة.

هناك مجموعة من القوى المحركة للنظام السياسي الشعبوي في الشرق الأوسط، والتي لعبت دوراً مباشراً في تحديد طبيعة الأنظمة الشعبوية العربية، التي تقع في مكان ما بين تعريف أنظمة الحكم السلطوية والأنظمة الشمولية، فقد كانت شؤونها تتمحور بدرجات متباينة بين حالة وأخرى حول ثلاثة أقطاب مركزية هي: رئيس الجمهورية، الجيش، الحزب، وذلك ما تمخض عنه في حالة العربية مزيج من دولة-رئيس ودولة-أمنية، والتي بدورها تضم جوانب من الدولة البوليسية أو دولة المخابرات، وهو المثال المصري والتونسي، بدءاً من بورقيبة وانتهاء إلى قيس سعيد، وكذلك دولة الحزب التي تُهيمن على النقابات والجمعيات كالدولة البعثية في العراق وسوريا، ويكون توجيه البيروقراطية المدنية وإخضاعها للسيطرة بيد هذه الأطراف الثلاثة، أما تعبئة الناس وتوجيههم ضمن هذا النظام فهي عملية في جزء منها ذات صفة كاريزمية، يتمتع بها الزعيم، وفي جزء منها أيديولوجية وسياسية عبر الحزب، وفي جانب آخر منها تنظيمية من خلال البيروقراطية، وفي مثل هذه الأنظمة يغدو للزعيم دور حاسم إلى أبعد حد، كأنه ملكٌ رئاسي، أو كما قال لويس الرابع عشر: أنا الدولة والدولة أنا. 

إن ازدياد القهر والفقر في المجتمعات العربية يوفر تربة خصبة للظاهرة الشعبوية، لقد نشأ النظام المجتمعي الحديث لهذه البلاد مثل العديد من البلاد النامية في ظروف تاريخية محددة، وهي ظروف التحرر من الاستعمار وما أحدثه من آمال وما بثه من قيم ومطالب اجتماعية تتعلق بتحقيق الحرية والعدالة والمساواة والتنمية واللحاق بالدول الصناعية، ما جعل الإيمان بالزعيم الشعبي شيئاً راسخاً، وقد سعت النخب الحاكمة التي أدركت منذ البداية عجزها عن تلبية هذه المطالب والرد على التوقعات الشعبية الكبرى والآمال العريضة، إلى تجاوز الهوة العميقة بين الشعارات المرفوعة والممارسات المحدودة النتائج، وأحياناً معدومة الفاعلية، عن طريق تشجيع الشعبوية، أو الغوغائية الوطنية بمعنى آخر، التي لا تقوم على محاسبة فعلية أو تحقيق برامج حقيقية واضحة، فبدلاً من محاولة بناء دولة كان من الأسهل خلق حالة هيجان شعبي دائم بهدف تحقيق شعارات صعبة المنال، ما يشغل الجماهير عن وضعها الاجتماعي والاقتصادي والحياتي والإنساني، لأن هناك شروراً أكبر عليهم مواجهتها تتمثل في النخب أعداء الشعب.

المصادر

– "العرب والسياسة أين الخلل؟" – محمد جابر الأنصاري 

– "رجال الشرفات" – منى خويص

– "التخلف الاجتماعي" – مصطفى حجازي

– "أصول النظام السياسي" – فرانسيس فوكوياما

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى علي
كاتب مصري
مدون مصري، مهتم بالسينما والتاريخ والمجتمع، حاصل على بكالريوس كلية إعلام القاهرة.
تحميل المزيد