أقلعت الطائرة وتمايلت فوق مروج ووديان وخضرة ذابلة تحت وشاح الليل، القمر يطل بابتسامته وراء السحب، وظهر لامعاً على جبين السماء، على شرفة الطائرة ودعتُ مدينة تحتضن أحلامي، وقبر أمي وذكرياتها الأخيرة، وطفقتُ أراقب الأفق المدهش والفضاء الشاسع وأعانق النجوم الهامسة. أواصل في هذا المقال تدوين رحلتي إلى إسطنبول، بعد المقال الأول: "رأوني ثريّاً ثم عاملوني بقرف.. خواطر صومالي في مطار نيروبي".
كان السكون يطبق على أرجاء الطائرة، سوى أزيز أجنحة تقاوم المطبات الهوائية، وأصوات شريحة من المسافرين لم يَسقِهم الكرى كأس النعاس، ولا بد أنهم كانوا يتحدثون عن أحلامهم وآمالهم ومخاوفهم وواقعهم، وعن الحب وقبح الحروب وألم الفراق وعبثية الغربة والسياحة، خاصةً ونحن نتجه إلى مدينة أصبحت قبلة السياح والجسر الذي يربط الشرق بالغرب.
كنّا أنا وزوجتي نفكّر كيف ستكون عاصمة السلاطين، وكيف ستكون مستشفياتها وفنادقها، خاصة أن الرفيقة تعاني من "وسواس النظافة"؟ لقد أثارت مدينة الخلفاء فضولنا، وتخيلنا مذاق طعامها ورائحة آثارها ومفاتنها العتيقة. رتّبَتْ مقعدها وهيأت نفسها لرحلة طويلة ذكرتني بـ"الجميلة النائمة والطائرة". لقد "جَلَسَت، كمن تَعَود الأمر من سنين عديدة، واضعة كل شيء في مكانه بعناية فائقة، حتى باتت مساحتها الشخصية مرتبة كبيت مثالي حيث يوجد كل شيء". وحين نامتْ وأخبرتْ الطاقم أنها غير مهتمة بطعامهم لاحظتُ "هالة من الجمال الشرقي القديم".
بخلاف عميد الأدب العربي طه حسين استطعنا أن نقطع الطريق مُعلقين بين السماء والأرض. مررنا فوق مدن وأنهار وحدود دول وبحار وجبال شاهقة حتى حلقنا على أجواء مكة المكرمة، فسال الشوق والهيام نحو أم القرى وبطاحها، نحو الكعبة المشرفة وساحاتها، ومنى وصعيد عرفات والجمرات، لقد أثارت خريطة الطائرة ذكرياتي في البيت العتيق، منبع الإيمان ومهبط الوحي، ونكأت جرحاً قديماً لم يلتئم، لقد عاد بي الزمن إلى الوراء، وتحديداً عام 2017، عندما كنت بين الحجيج ملبياً، وشعور بالبهجة يجتاح أضلعي.
تجاوزنا مكة وذكرياتها نحو زرقة مياه الخليج وإلى الدوحة، هبطت الطائرة بمطار حمد الدولي؛ البوابة الرئيسة لدولة استطاعت وبكفاءة عالية احتواء وإدارة التناقضات السياسية والدبلوماسية، وإرهاق الدول الكبيرة في المنطقة بطموحاتها ومحاولاتها الدؤوبة للريادة. المطار يتمتع مثل مطار مقديشو بمناظر طبيعية استثنائية، حيث تهبط الطائرة فوق مدرج يحتضن المياه، وقبل عملية الاستصلاح والردم.
واصلنا رحلتنا نحو إستنابوليس، وهبطت طائرة (بوينغ 787-8) التابعة للخطوط الجوية القطرية بلونها العنابي على مطار تحيطه الفخامة، وأعطته كثافة الرحلات الإحساس بحياة طبيعية افتقدناها بسبب الجائحة. خرجنا من المطار وركبنا سيارة أجرة صفراء يقودها تركي لا يعرف غير التركية. في البداية تحدث بلغته، وبعد أن لاحظ أننا لا نعرف عنها شيئاً سألَنا بعربية مكسرة تخرج من مخارج إنسان ربما لم ينطق جملة عربية في حياته قبل التدفق العربي إلى تركيا: "أنتم عرب؟" فقلنا: من الصومال تحديداً. وبما أن قومي كثيرو الترحال والتنقل أسهب في شرح الصوماليين وصفاتهم! عجزنا عن فهم كلامه ومجاراة نبرته السريعة، ولكن أنقذنا عبدالرحمن الذي رافقنا من المطار وترجم لنا المحاضرة الطويلة والعتاب العنيف للسائق. كان يصف الصوماليين! "قوم طوال نحيفو القوام، يتحدثون كثيراً ويصيحون باستمرار ويتشنجون وكأنهم أمام مباراة محتدمة بين غريمين تقليديين".
في نهاية حديثه تذمر من الأجانب المتدفقين إلى بلده، خاصة أن الأتراك يعانون من التضخم وغلاء المعيشة وتدهور قيمة الليرة أمام الدولار. فهمت من كلامه -وتأكدت لاحقاً بعد احتكاكي بهم- أن كثيراً من الشعب يعتقدون أن الدولة تعيل الأجانب وتعطيهم المال بينما هم يعانون وتسحقهم الحياة! وبما أن الأمل خبز الفقراء كان يمني النفس أن يلامس الاقتصاد التركي حياته وحياة ملايين من أبناء وطنه.
أول ما لفت انتباهي فور وصولي إلى إسطنبول كان الطقس الجميل والجو المنعش، كنت أتابع وأتواصل مع الصوماليين في إسطنبول، وبما أنهم من منطقة استوائية حارة ويشاهدون ولأول مرة في حياتهم تساقط الثلوج كانوا ينشرون بحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وهم يتزلجون في الشوارع ويرتدون ملابس الشتاء، لذا اشتريت من نيروبي بعض الملابس الشتوية، ولكن ما إن وطأت قدمي المطار اكتشفت أن سماء إسطنبول صافية وأجواءها ربيعية ضاحكة، تشوبها غيوم داكنة تتابع من بعيد صخب مدينة تحتضن قرابة 16 مليون نسمة، يستطيع الكاتب الحاذق أن يحول حياتهم إلى قصة للكتابة. كفرد من جيل نشأ في أتون الصراعات والدمار تبهرني المدن الكبيرة، ويبهجني العمران والناس المتدفقة كالسيل. وعلى أجنحة الحلم تمنيت لو أن وطني يعمه السلام، ولكن على أي حال: "كل سفر له مزاياه، فإن ذهب المسافر إلى أجمل من بلده سيتعلم كيف يطورها، وإن قاده الحظ إلى أسوأ منها فربما يتعلم كيف يحبها".
على طول الطريق كانت المساحة الخضراء لافتة للنظر، ومن الواضح أن الحكومة التركية أولت اهتماماً كبيراً للتشجير، حتى باتت الدولة الأولى أوروبياً والرابعة عالمياً في ذلك.
سريعاً غصنا في أسوار دار السعادة وتفاصيل الحضارات المتعاقبة، ومبانٍ صمدت على وجه الحقب والتنوع السياسي والفكري. عند وصولنا كانت المدينة في حالة من البهجة وتحتفل بذكرى "الفتح". الساحات والميادين تمتلئ بالحضور والهتافات والتكبير، في حين كان أيا صوفيا بعظمته غارقاً ببحر الغروب. سكنت في منطقة الفاتح التي تعتبر مركز الأجانب في المدينة، وإن كانت إسطنبول في تاريخها مدينة جمعت كل الأطياف والأعراق وظلت بوتقة تصهر التنوع الثقافي والحضاري والديني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.