في الذكرى الأولى لوفاة الدكتور مشالي أو "طبيب الغلابة" أذكر بهذه الشخصية الرائعة، وإنه لمن دواعي الشرف أن أكتب عن سيرة الشرفاء في وقت عز فيه الشرف.
رغم مرور أكثر من 33 سنة على حدوثه، فإن ذاكرتي الضعيفة ما زالت تذكر موقفاً وكأنه حدث بالأمس؛ وذلك حين اشتد بي المرض في ليلة من الليالي، ولم يكن مع أمي من المال ما يكفي لعلاجي عند طبيب مجاور، فأخذتني عند طبيبة تقطن بعيداً عن قريتنا، ربما سمعت عنها من إحداهن.
دخلت العيادة، فقابلتنا تلك الطبيبة التي ما زلت أذكر ملامحها جيداً، بابتسامة عريضة، وشرعت في التحدث إليّ وكأننا في جلسة عائلية، وكأن من تُحادثه أكبر من طفل في السادسة من عمره، فطبت قبل أن تضع السماعة على بطني من حلاوة كلامها، وبشاشة وجهها، وبعد الكشف أعطتني جنيهاً كاملاً، وطلبت مني أن أشتري ما أرغب فيه!
كلما رأيت صورة الدكتور "محمد مشالي" تذكرت تلك الطبيبة الجميلة التي كلما لاح طيفها بخاطري دعوت لها، ورددت في نفسي قول الشاعر:
ازرع جميلًا ولو في غير موضعه
فلا يضيع جميل أينما زُرعا
إن الجميل وإن طال الزمان به
فليس يحصده إلا الذي زرعا
بدأ الدكتور مشالي حياته العملية بإحدى الوحدات الصحية بقرية صغيرة من قرى الدلتا، رأى الدكتور محمد مشالي طفلاً صغيراً يبكي من شدة الألم، وسمعه يطلب من أمه أن تعطيه حقنة الأنسولين فردت الأم: "يا بني لو جبتلك حقنة الأنسولين إخواتك مش هيتعشوا، يدوبك الفلوس على أد العيش والطعمية بتوع العشا"، فما كان من الولد إلا أن صعد على سطح المكان وحرق نفسه، وبينما كانت النار تلتهم جسده الصغير كان يردد: "أنا عملت كده عشان أوفر حق الأنسولين لإخواتي".
من جانبه أسرع الدكتور مشالي في جلب بطانية واحتضنه بها، لكن صعود الروح إلى ربها كان أسرع!
أقسم الدكتور مشالي حين عايش هذا الموقف بنفسه أن يسخر وقته وعلمه لخدمة الفقراء، فقضى 50 سنة يعالج تلك الفئة المهمشة بدون مقابل مادي يذكر!
لقد شكل هذا الموقف نقطة تحول كبيرة في حياة طبيب الغلابة، فلقد أقسم بعده أن يهب نفسه وعلمه ووقته لعلاج المساكين والمعدمين. ولإخلاصه وحسن مقصده برز الرجل كسبيكة إنسانية امتزجت فيها الطيبة بالرحمة، والرقة بالعظمة، والتربية بالأخلاق النادرة .
إن أكثر ما كان يشغب به على الدكتور مشالي في حياته عدم اكتراثه بمظهره، واعتماده على طب اندثر منذ عشرات السنين، وقد يكون الملاحظ لهذا الأمر محقاً، لكن الرجل الذي فارقنا قبل عام كان عاقلا، أدرك أن للسعادة قوانين، مصدرها القلب فالتزم بها، وأدرك أن العطاء لا الأخذ هو قمة السعادة، فراح يعطي بسخاء، وأيقن أن أسعد الناس أنفعهم للناس، فكان نافعاً لغيره كالغيث أينما وقع نفع!
بحسابات الدنيا كان الرجل خاسراً في نظر البعض، إذ كيف يقوم بالكشف على المرضى دون مقابل يذكر، بل ويشتري الدواء لمن لم يقدر على ثمنه، لكن من المؤكد أن هؤلاء لم يدركوا أن الشعور بالراحة النفسية مصدره الأول عطاء الروح قبل البدن، ولا شيء يخسره الإنسان حين العطاء، ذلك أن ثمار العطاء لا ترى، بل هي نسمات تتسلل إلى أعماق الروح فتُشعرها بالبهجة والسعادة .
إن مما خبرته في حياتي وأيقنت به أنه كلما أعطى المرء من وقته وجهده وماله جاءه رزقه دون توقع، والرزق ليس مالاً، بل ربما جاء في صورة راحة نفسية وبركة في الصحة وتوفيقاً في الأعمال، وصلاحاً للبال.. واسألوا المجربين!
ولد الدكتور مشالي لأب يعمل مدرساً، تخرج في كلية طب قصر العيني، وتخصص في الأمراض الباطنة وأمراض الأطفال والحميات، ولما مات والده تحمل مسؤولية إخوانه، ولما مات أخوه الأكبر تكفل بتربية أولاده من بعده، فكان ذلك سبباً في تأخره في الزواج، غير أن الله أكرمه بزوجة أصيلة، ورزقه ثلاثة من الأولاد تخرجوا في كلية الهندسة.. مات الرجل وبقيت وستبقى سيرته الطيبة، ذهب الرجل وخلف من بعده دعوات الفقراء والمساكين، التي أسأل الله أن تكون سبباً في رفع درجته، وعلو مكانته في الجنة.
لا تكونوا كمشالي في هيئته وشكله ونمط لبسه، ولكن كونوا كمشالي في إنسانيته ورقة قلبه!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.