أسئلة استفهام كثيرة تثار اليوم حول اتهامات منظمة العفو الدولية ومنظمة "قصص ممنوعة" للمغرب باستخدام برنامج إسرائيلي (بيغاسوس) للتجسس على الصحفيين ومسؤولين فرنسيين وجزائريين، بل والتجسس على ملك المغرب وزوجته وعائلته الأميرية.
ليس هناك حاجة إلى البحث عن دليل لإثبات تحيز العديد من المنظمات الدولية، وممارستها الازدواجية في التعامل مع حقوق الإنسان، وسكوتها عن بلدان، وتخصصها في بلدان أخرى، وتحولها إلى أدوات سياسية، لتصفية حسابات خاصة مع بعض الدول، وضلوعها في علاقات مشبوهة مع دول، وتلقيها رشاوى بهذا الخصوص لتنفيذ أجندات خاصة.
سنترك جانباً هذه الحقيقة، التي تسندها مؤشرات كثيرة من واقع تعامل هذه المنظمات مع حقوق الإنسان، ونبحث النازلة في حيثياتها، ونختبر صدقيتها من بنائها الداخلي، ونبحث خلفياتها، والرهانات الثاوية خلفها.
الرواية التي قدمتها منظمة العفو الدولية، ومنظمة "قصص ممنوعة" لم تكتف بالحديث عن تجسس استخباري على صحفيين مغاربة، إذ لو اكتفت بذلك، لكان ذلك جزءاً من تحصيل الحاصل، فالعمل الاستخباراتي في جميع دول العالم، يشتغل بآليات كونية، تدخل ضمن عناصرها تجميع المعطيات من المجتمع السياسي والمجتمع الإعلامي والمجتمع المدني بكل مكوناته، وتبقى المقتضيات الدستورية، التي تحمي الحريات، وتحمي حرية التراسل، وسائل دفاع المجتمع عن نفسه، حتى لا تتحول المعطيات المجمعة من لدن الأجهزة، وسيلة للصراع السياسي، أما أن تكون أداة لحفظ الأمن والاستقرار، فهذا هو المنطق الكوني، الذي يعتمد في كل دول العالم بدون استثناء.
الراوية التي قدمتها منظمة العفو الدولية، ومنظمة "قصص ممنوعة" اختارت توقيتاً دقيقاً، واختارت في عناصرها أن تثير بؤراً مخصوصة، لها علاقة جد وطيدة بالمصالح الحيوية للمغرب، والتقدم الذي أحرزه في السنوات القليلة الماضية.
من حيث التوقيت، فقد جاءت قبيل ترتيبات الاحتفال بذكرى عيد العرش، وهي لحظة جد حساسة بالنسبة إلى المغاربة؛ لأنها من جهة لحظة إجماع على الملكية، ومن جهة أخرى، هي لحظة تتويج للمسار الذي يحققه المغرب كل سنة، واستشراف الآفاق التي يتطلع لتحقيقها في المدى القريب والمتوسط والبعيد.
التوقيت يتزامن أيضاً، مع إدارة المغرب لصراع دبلوماسي وسياسي قوي دفاعاً عن وحدته الترابية، سواء مع ألمانيا أو إسبانيا، وتحقيقه مكاسب مهمة في هذا الصراع، كان آخرها، حصول تعديل حكومي في إسبانيا، راحت ضحيته وزيرة الخارجية الإسبانية التي تسببت في أزمة غير مسبوقة لإسبانيا مع المغرب على خلفية سماحها ابراهيم غالي زعيم الانفصاليين للدخول إلى أراضيها بهوية وجواز سفر مزورين دون إخبار الرباط.
كما يأتي نشر هذه المعطيات عقب تحول في لغة المغرب اتجاه الجزائر، واستعمال المغرب لأول مرة، لورقته الردعية "حق شعب القبايل في تقرير المصير" في مواجهتها مع مناورات الجزائر.
في مضمون الرواية، ثمة ثلاثة مضامين مهمة: أولها، أن المستهدف من التجسس المغربي المفترض هم صحفيون ومسؤولون وشخصيات سياسية عامة في المغرب والجزائر وفرنسا، أي أن مفعول الرسالة يجعل الجزائر وفرنسا وجزءاً من النخبة السياسية والإعلامية المغربية المختلفة مع خط الدولة في سلة واحدة هي سلة الضحية، ويجعل المغرب، أو للدقة يجعل أجهزته الأمنية، في دائرة الاتهام.
المضمون الثاني، أن تجسس الأجهزة الأمنية لم يكتفِ بالخارج، بل جعل الملك والأسرة الملكية ورئاسة الحكومة، ضحية التجسس، أي أن الرواية، تريد أن تفرّق بين الملك، وبين الأجهزة الأمنية، وكونها هي فوق الملكية، وتجعل الملكية نفسها في دائرة المراقبة وضبط التحرك.
المضمون الثالث، فرتبط بمصدر برنامج التجسس (بيغاسوس)، أي الشركة الإسرائيلية (إن إس أو)، أي إسرائيل التي دخل معها المغرب في اتفاق ثلاثي، ووقع معها أسبوعاً قبل نشر رواية منظمة العفو الدولية ومنظمة قصص ممنوعة، أي في 15 يوليو/تموز 2021، اتفاقية دفاع حول الأمن السيبراني.
هذه المضامين الثلاثة تجتمع في قضية واحدة، هي خلق ثلاث بؤر توتر مركزية مع الأجهزة الأمنية المغربية: جعل المجتمع السياسي والإعلامي والمدني المغربي في دائرة الاحتكاك مع هذه الأجهزة، وإدخال عنصر الشك والريبة في العلاقة بين المؤسسة الملكية والأجهزة الأمنية، وخلق بؤرة توتر بين المغرب وصديقه الاستراتيجي فرنسا على خلفية ممارسات أجهزة الأمن، وليس على خلفية مواقف وقرارات الملك.
خلاصة هذه المضامين الثلاثة أن على الملكية في المغرب أن تتخلص من رأس جهاز الأمن المغربي، لاعتبار أنه المسؤول عن هذه البؤر الثلاث المفترضة.
ردود الفعل المغرب، ابتعدت عن إدارة الصراع السياسي، سواء مع هذه المنظمات، أو مع من يفترض أنه يكسب من تحركها ضد المغرب، فقد اختار المغرب أن يواجه هذه المنظمات ومن خلفها من البوابة القانونية والقضائية، فطلب وزارة الخارجية من كل من يتهم المغرب أن يقدم أدلته، وأقدمت النيابة العامة على فتح تحقيق لمعرفة خلفيات هذه الاتهامات ومن يقوم وراءها، ونصّبت الرباط محامياً فرنسياً شهيراً (أوليفييه باراتيلي)، لرفع دعوى قضائية في المحكمة الجنائية بباريس ضد هذه المنظمات، ومطالبتها في غضون 10 أيام بأن تقدم أدلتها في الموضوع.
المعطيات المتوفرة حتى الآن تشير إلى أن منظمة العفو الدولية ومنظمة قصص ممنوعة توجد في ورطة حقيقية، فرئيس الوزراء الفرنسي جون كاستيس أكد أمام البرلمان أن التحقيقات بشأن حصول تجسس على هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم تفض إلى شيء، وشركة (إن إس أو) الإسرائيلية نفت بكل شدة أن تكون قد باعت برنامج التجسس بيغاسوس للمغرب، والمغرب نفسه نفى بكل شدة هذه الاتهامات، والمعطيات الخاصة التي تتعلق بكلفة شراء هذا البرنامج تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يكون المغرب بالمؤهلات المالية التي تسمح له بشراء واستعمال هذا البرنامج. فحسب موقع فاست كومباني، فإن شركة "إن إس أو" الإسرائيلية تطلب من عملائها 650 ألف دولار فقط من أجل اختراق 10 هواتف، كما تأخذ نصف مليون دولار بمثابة رسوم لتثبيت البرنامج، فكيف يمكن أن يتم تصديق رواية تجسس المغرب على 50 ألف هاتف حسب رواية "منظمة العفو الدولية" و"قصص ممنوعة"، والكلفة قد تتجاوز بحسب هذه المعطيات 3 مليارات و250 مليون دولار؟!
المعطيات التقنية هي الأخرى، تطرح أسئلة حارقة، إذ لا يمكن القطع بحصول التجسس إلا عند اختبار الهاتف النقال، فكيف حصلت هذه المنظمات على هذه الهواتف، بما في ذلك هاتف الرئيس الفرنسي وهاتف الملك محمد السادس وأسرته الملكية؟ وكيف تسنى لها تجميع 5 آلاف رقم، والزعم أنها كلها خضعت للتجسس من قبل أجهزة الأمن المغربية؟
ليس ثمة من شك أن هذه الحملة الموجهة ضد المغرب، سواء من حيث توقيتها، أو مضمونها، أو خلفياتها، تخدم طرفاً وحداً هو الجزائر، وهي التي سعت من غير تريث ولا تعقل إلى إصدار بلاغ اتهام ضد المغرب، دون أن تتحلى بما تتطلبه الدبلوماسية من اتزان، فالورطة التي وقع فيها جنرالات الجزائر بعد تمكن أجهزة الاستخبارات المغربية من معرفة ضلوعهم في تزوير بطاقة هوية وجواز سفر زعيم الانفصاليين للدخول إلى الأراضي الإسبانية، وفشل الجزائر في كسر استراتيجية المغرب في فتح وتأمين معبر الكراكرات نحو العمق الإفريقي، وفشلها أيضاً في دفع الإدارة الأمريكية الجديدة للتراجع عن اعتراف الإدارة السابقة بسيادة المغرب على صحرائه، وعجزها عن الاستثمار في الأزمة المغربية الإسبانية، وقبلها الأزمة المغربية الألمانية لإثارة الاتحاد الأوروبي ضد المغرب ودفعه نحو التراجع عن إبرام الاتفاق الزراعي معه، وحنقها من مستوى العلاقات المميزة بين الرباط وباريس، كل ذلك دفعها إلى تحريك مختلف أوراقها، من أجل اختلاق أزمة كبيرة، تحقق من ورائها جملة أهداف: تزرع بذور الشك بين الملك والمؤسسة الأمنية، وتفجر العلاقات بين الرباط وباريس، وتدفع جزءاً من المجتمع السياسي والمدني والإعلامي للاحتكاك مع الدولة في توقيت يعلو فيه الإجماع على الشك، وتدفع المغرب في المحصلة للتضحية بجزء كبير من سر قوته في التقدم الذي يحصله، أي المؤسسة الأمنية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.