عملت الدولة القومية على خلق ثقافة وطنية موحدة تعتمد المواطنة كهوية جماعية للشعب بدلاً من الانتماء الديني والمذهبي، وحرصت على ترسيخ شعور مواطنيها بهويتهم عبر التركيز على الموروثات التاريخية والثقافية المشتركة مثل اللغة والأعراف والتراث كما صنعت رموزاً وطنية، وتبنت تعليماً موحداً ونشيداً وطنياً وعلماً قومياً، ونشرت حراساً لحدودها الوطنية، وأسست مؤسسات موحدة ذات رمزية وطنية تحمي سيادة الدولة مثل الجيش والشرطة والقضاء.
ووفق المنظور العلماني، فإن تلك الخطوات ساهمت في بناء مقدسات علمانية ساهمت في تعزيز حياد الدولة تجاه الدين بدرجة كبيرة، بحيث لم يعد مقبولاً تبرير القرارات الحكومية في الدول العلمانية بأسباب دينية ليصبح الفصل بين الدين والدولة هو المعيار للعلمنة السياسية.
وعند تحليل نماذج الدول العلمانية نجد أن سياسات تلك الدول تجاه الدين تتأثر بالصراعات الأيديولوجية والتجربة التاريخية لكل دولة، وهو ما أدى إلى ظهور عدة نماذج علمانية تختلف بشكل كبير في تعاملها مع دور الدين في الشأن العام:
النموذج الفرنسي
هو نموذج تأثر بالصراعات التاريخية بين الكنيسة والدولة، والبابوات والأباطرة والملوك، ومن ثم قامت العلمانية الفرنسية على نظرة سلبية للدين، حيث أعلنت الجمهورية الفرنسية في عام 1905 أنها لا تعترف بأي مذهب ديني كدين رسمي للدولة. وفي النموذج الفرنسي تحتفظ الدولة لنفسها بحق التدخل في شؤون المؤسسات الدينية لتنظيمها والسيطرة عليها. وهو ما تستند إليه القرارات والقوانين الفرنسية الصادرة خلال السنوات الأخيرة، والتي تمنع ارتداء ملابس معينة مثل غطاء الرأس للمحجبات في أماكن الدراسة والمؤسسات الحكومية.
النموذج الأمريكي
لم يعش المهاجرون الأوروبيون الجدد إلى أمريكا صراعات تاريخية ضد الكنيسة، وساهم تأسيسهم لدولة جمهورية في عدم انشغال النخبة الأمريكية بالقضاء على الملكية وتجنب النظر إلى الدين كحليف للملكية. فبرز نموذج علماني أمريكي غير معادٍ للدين يعترف باستقلالية المؤسسات والطوائف الدينية عن الدولة، وبعدم أحقية الدولة بالتدخل في أعمال المؤسسات الدينية. أي أنه نموذج يتضمن استبعاداً متبادلاً من جهة الدولة والمؤسسات الدينية وتتكفل الدولة خلاله بالحرية الدينية، بمعنى أن الكونغرس لا يملك سلطة التشريع في أي مسألة تتعلق بالدين.
النموذج السوفييتي
قدم الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له في أوروبا الشرقية نموذجاً أيديولوجياً يعارض الدين من حيث المبدأ، ويستبعده تماماً من الحياة العامة ويقطع عنه أي موارد قد تؤدي إلى ازدهاره. ولم يلتزم هذا النموذج بالفصل بين الدين والدولة إنما أعطى الدولة حق التدخل في الشؤون الدينية دون أن يكون للدين أي قدرة على التدخل في شؤون الدولة. وهو نموذج يفوق النموذج الفرنسي في نفوره من الدين.
النموذج الهندي
عملياً، وُجهت العديد من الانتقادات لمدى واقعية الفصل بين المجالين العام والخاص، واشتراط استبعاد الدين من الحياة العامة، وفرض خيارات على المتدينين لا تتوافق مع أخلاقهم مما يؤدي إلى تعزيز انفصال المتدينين عن المجتمع العام المحيط بهم، وبالأخص في الأديان التي لديها حضور عام مثل الإسلام، ولا تحمل نزعات فردية مثل البروتستانتية. وهو ما دفع إلى طرح نماذج أخرى من العلمانية تختلف عن النماذج الغربية مثل نموذج العلمانية الهندية.
يقوم النموذج الهندي للعلمانية على مفهوم المسافة المبدئية من الأديان وعدم تحديد حدود صارمة بين العام والخاص، وأخذ الدين بعين الاعتبار في ظل أهميته العامة. فهو نموذج وسط بين النموذجين الفرنسي والأمريكي، حيث يختلف عن النموذج الفرنسي في عدم تبنيه لتوجهات معادية للدين حيث يعترف بالأديان بشكل رسمي، ويسمح للدين بالتدخل في شؤون الدولة في حال كان هذا التدخل يعزز الحرية أو المساواة أو القيم العلمانية، ويختلف عن النموذج الأمريكي في عدم تبنيه للاستبعاد المتبادل حيث يسمح للدولة بالتدخل في الدين لمنع التوجهات الدينية التي تسمح بالتمييز على أساس طبقي، فتتيح الدولة مثلاً لطبقة المنبوذين دخول المعابد الهندوسية رغم أن ذلك ممنوع في الديانة الهندوسية.
العلمانية التعددية
ساهمت ظاهرة تنامي الهجرة من بلاد إسلامية إلى أوروبا في حدوث أزمات داخل الدول الأوروبية بخصوص كيفية التعامل مع التنوع الجديد الدخيل على مجتمعاتهم، فبرزت مقاربات فاقمت المشاكل في ظل تأسيسها على العداء للمهاجرين وعدم الثقة تجاه المسلمين كما هو الحال في النموذج الفرنسي الذي تبنى مناهضة الحجاب ودافع عن الرسومات المسيئة لعقائد المسلمين ورموزهم، مما أدى بالمقابل إلى ردات فعل مقابلة من طرف بعض المسلمين. كما برزت تحيزات مثل تلك الموجودة في بريطانيا التي يتلقى ثلث أطفال المدارس الابتدائية فيها تعليمهم على يد مجتمعات دينية بينما عادة ما تُرفض طلبات المسلمين للحصول على تمويل حكومي لمدارسهم.
ومن ثم طرح بعض الأكاديميين الأتراك نموذج العلمانية التعددية الذي يهدف إلى تحقيق توازن بين السيادة السياسية للدولة والحريات الدينية الجماعية، حيث يعتبر أن مبدأ حياد الدولة تجاه الدين اُستخدم لفرض هيمنة الدولة على الدين، وتشكيل الدين بما يخدم توجهات الدولة التي تحتكر المجال العام، مما يدفع أصحاب التوجهات الدينية إلى المزيد من الراديكالية والعمل السري.
ويدعو نموذج العلمانية التعددية إلى مراعاة الاحتياجات المجتمعية لمعتنقي الديانات المنظمة التي لديها أبعاد أخلاقية، ويجادل بأنه يمكن النهوض بالديمقراطية بشكل أفضل من خلال دمج الدين بالسياسة وليس فصلهما عن بعض. وذلك عبر الفصل بين المجال العام الاجتماعي والمجال العام للدولة، وإعطاء الحريات الدينية دوراً جماعياً مكملاً للحقوق الفردية، ومنح الجمعيات الدينية حق تنظيم الحياة المجتمعية الدينية، مما يؤدي إلى تعاون مؤسسي بينها وبين الدولة في مجالات متنوعة مثل الرعاية الصحية والتعليم والأنشطة الاجتماعية.
ومن خلال ما سبق نجد أن النماذج العلمانية التي اتسمت بالديمومة مثل النموذجين الفرنسي والأمريكي هي نتاج تجارب تاريخية وتلاقح أحداث وصراعات مطولة وتجارب تاريخية مرت بها الدول الغربية، وليست نماذج فُرضت من أعلى إلى أسفل على الشعوب من جهة أنظمة الحكم. وبالتالي فعند نقل تلك التجارب إلى العالم الإسلامي سنجد أنها تجارب منبتة عن التعاليم الدينية الإسلامية، ولا ترتبط بالموروث التاريخي الذي لم يشهد صراعاً بين مؤسسات دينية كهنوتية إسلامية وأنظمة الحكم. أي أنها تمثل استنساخاً لحلول أجنبية بهدف مواجهة تحديات غير ذات صلة بتلك الحلول. وهو ما أدى إلى توليد مشاكل أكبر وترسيخ توترات مجتمعية وصراعات كان من الممكن تلافيها في حال تبني حلول متسقة مع قيم وتقاليد وموروثات وحضارة شعوب العالم الإسلامي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.