أهم الملاحظات التي يمكن للمرء رؤيتها كنتيجة لانتشار فيروس كورونا وتهديده لحياة الكثيرين هي انتشار نظرية المؤامرة بين الناس بشكل غير مسبوق، ومع إهمال إجراءات السلامة نرى أن ذلك يهدد بشكل كبير مجتمعات كاملة، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، طبعاً هناك فئة واسعة ممن لا يؤمنون بالعلم في المجتمعات المتقدمة، وهم عادة ناشطون في اختراع وترويج نظريات المؤامرة، ولكن توفُّر الإمكانات العلمية والطبية والمادية في هذه المجتمعات يحدُّ بشكل كبير من أثر تلك الفئة، غير أن تبنّي تلك الأفكار من قِبل فئة عريضة من المجتمعات العربية والمسلمة، التي لا تتوفر فيها إمكانات المجتمعات المتقدمة يُشكل تهديداً حقيقياً لسلامة وربما لوجود المجتمع ككل.
وفي ظننا أن المشكلة تنبع في الغالب من الارتياب من الغرب إجمالاً، وكل ما يأتي منه من حلول، وإذا أضفنا لذلك التخلف العلمي الذي نعانيه، والذي يجعل معظم الناس لا يفهمون طبيعة العلم ولا معاييره وطرقه، نجد أننا أمام أزمة خطيرة ستكون لها آثار مدمرة.
ولعل من التناقضات الصارخة أن هؤلاء المتوجسين من الغرب يحتفون بتلك النظريات، التي غالباً ما تأتي من الغرب نفسه، كما أنهم يأخذون بآراء ونصائح وتوصيات من مصادر مجهولة، ذات أرضية غير معروفة، لمجرد أنها تم طرحها بطريقة معينة عبر مقطع فيديو.
ومؤخراً أُجري بحث مهم لمحاولة فهم هذه الظاهرة، فمعتنقو نظريات المؤامرة يرون أنفسهم مفكّرين عميقين، ولا ينساقون مثل القطيع، وقد تم البحث في فرنسا على 338 طالباً جامعياً، بقياس مهارات التفكير الناقد، ثم قياس ميولهم لنظرية المؤامرة. وقد تم تعريف نظرية المؤامرة بأنها تفسير الأحداث بوجود عصبة قوية نافذة شريرة، تُخطط وتُنفذ خطة معينة، ينتج عنها الأحداث التي نراها.
أما مهارات التفكير الناقد فهي القدرة على التفريق بين المعلومات ذات العلاقة، وتلك التي لا علاقة لها بموضوع معين، والتفكير بطريقة منظمة ورؤية الموضوع من عدة زوايا، وتجنب التناقضات المنطقية، ورؤية ما يقع وراء الأشياء الواضحة، وتجنب الانحيازات الفكرية، والاستعداد لتغيير الرأي حسب الدليل المطروح.
وقد وجد أنه كلما ازداد الإيمان بنظرية المؤامرة كانت مهارات التفكير الناقد في تلك المجموعة أضعف، ولا يعني ذلك قلة في الذكاء، إلا أن تجربتهم وربما تعليمهم لم يتضمن التدرب على هذه المهارات وصقلها، كما أنه حتى بوجود تلك المهارات فأحياناً ما تكون الضغوط الاجتماعية والثقافية عظيمة، وتتغلب على تلك المهارات، فمثلاً هناك عامل الثقة، حيث إننا نميل أكثر لنصدق ونثق بقدرة من نعجب بهم ونحبهم على معرفة الحقيقة من الوهم، كما أن الحاجة أحياناً للشعور بالتميز تدفع الناس لتبني تلك الآراء.
هذا البحث يؤيد بحثاً قبله أُجري في جامعة ييل الأمريكية، حيث وجد أن الذين كانوا أفضل في فهم العلوم -التي تتطلب مهارات التفكير الناقد- كان عندهم معدل أعلى في التفكير المستقل، ما يعني أن التعليم العلمي يلعب دوراً مهماً في تطوير مهارات التفكير للطلاب، وربما ذكرنا ذلك بأكاديمية أفلاطون، التي كتب على بابها: "لا يدخلن علينا من يجهل الهندسة".
وفي النتيجة فإن الأمور تعود دائماً للتعليم ونظامه الذي يزرع أسس التفكير السليم في الشخص، ويعطيه فرصة أكبر لحياة أفضل، وهو ما يحتاجه العالم كله بشكل عام، وبشكل خاص المنطقة العربية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.