منذ البداية، لم تكن سيرة القيادة الفلسطينية في شأن الالتزام باتفاق أوسلو على خط واحد، أي الانصياع لذلك الاتفاق المجحف والناقص والمهين، لكن ذلك ينطبق أكثر على عهد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ولا ينطبق على عهد الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس؛ على نحو ما نشهد في هذه الأيام.
ومعلوم أن الاتفاق المذكور الذي تم التوصل إليه في قناة تفاوضية سرية، وتم التوقيع عليه في البيت الأبيض الأمريكي (في واشنطن، 1993)، كان بالنسبة لإسرائيل مجرّد أنشوطة لوأد حقوق الفلسطينيين، وإفراغ قضيتهم من أبعادها الوطنية والتحررية، أي أنه لم يكن اتفاق تسوية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لانتفاء عناصر التسوية فيه، ولو بحدودها الدنيا، إذ لم يتضمن حتى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، ولا وقف الاستيطان في الضفة، على سبيل المثال.
وكان جرى أول اختبار لذلك الاتفاق، في ظل قيادة ياسر عرفات، في العهد الأول لوجود نتنياهو كرئيس للحكومة (1996 ـ 1999)، الذي حاول فتح نفق تحت المسجد الأقصى، الأمر الذي أشعل هبة شعبية فلسطينية (على نحو ما شهدنا في أيار/مايو الماضي)، شاركت فيها أجهزة الأمن الفلسطينية، ونجم عنها مصرع 62 فلسطينياً، ومقتل عشرة إسرائيليين. وقد حدث الاختبار الثاني، بعد قيام أريئيل شارون باقتحام المسجد الأقصى (في ظل حكومة إيهود باراك)، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية الثانية (2000ـ2004)، التي طغى عليها طابع المقاومة المسلحة، والتي حاول من خلالها ياسر عرفات، في حينه، المزاوجة بين المقاومة والتسوية، وبين الانتفاضة والمفاوضة، وقد نجم عنها مصرع أكثر من خمسة آلاف فلسطيني، ومقتل 1060 إسرائيلياً، في حالة مقاومة اتسمت بالعمليات التفجيرية. وتفسير ذلك أن أبوعمار كان مهجوساً بمعنى فلسطين على الصعيدين العربي والإسلامي والدولي، ومسكوناً بمكانته الرمزية والتاريخية إزاء شعبه، وبموقع "فتح"، باعتبارها المسؤولة عن قيادة الشعب الفلسطيني وعن خياراته الوطنية، من إطلاق الكفاح المسلح (1965) إلى عقد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة؛ وكانت النتيجة محاصرة ياسر عرفات، في مقره في رام الله، منذ أواخر 2001 إلى حين رحيله في رحلته الأخيرة للعلاج في فرنسا (أواخر 2004).
بعد ذلك، أي في عهد الرئيس محمود عباس، الذي خلف أبوعمار في قيادة الكيانات الرئيسية الثلاثة للفلسطينيين (المنظمة والسلطة و"فتح")، لم يوجد في سيرته ما يشي بتمرد، أو بانقلاب، على أوسلو، إذ ظل يعمل تحت سقفه، وضمن الإطار المرسوم للسلطة، بما في ذلك شنّه ما يسمى المقاومة الدبلوماسية، بالمؤسسات الأممية، والقانون الدولي، في صراعه السياسي ضد إسرائيل، ولكن بحذر شديد، كما شهدنا في محاولته، التي وأدها، بوقف التعاطي مع إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها قبل عامين.
طبعاً لا يمكن أن يطلب من أبومازن أن يقوم بما قام به عرفات، فلا تاريخه ولا طبيعته تسمح له بالقيام بذلك، إضافة إلى أنه بنى مكانته القيادية، ونجاحه الانتخابي، على صراحته في التخلي عن نهج الكفاح المسلح، وهذا كان موقفه قبل أوسلو وبعده. فعدا عن الفارق في شخصية وتجربة الرجلين، وافتراقهما في تعيين الخيارات الوطنية، فقد أكدت التجربة أن ثمة قواسم مشتركة أساسية بينهما، في طريقة العمل ونمط التفكير، مع التذكير بأن هذين الرجلين هما المسؤولان الأساسيان عن اتفاق أوسلو، بالمضامين، التي وردت فيه، وبالمراهنات التي تأسّست عليه، علماً أنه من دون الشعبية التي كان يتمتّع بها عرفات ما كان يمكن تمرير هكذا اتفاق البتّة.
هكذا فإن القيادة الفلسطينية، من ياسر عرفات إلى محمود عباس، كانت بنت منذ البداية انخراطها في عملية التسوية على مراهنات خاطئة، إلى حد استهانتهما بالنصوص المجحفة التي وردت في اتفاق أوسلو، الذي لم يعرّف إسرائيل كدولة محتلة، ولا الضفة والقطاع كأراض فلسطينية، ولم يبت بمسألة الاستيطان، ولم يستند إلى مرجعية القرارات الدولية، واقترب كثيراً من الرؤية الإسرائيلية للصراع باختزال قضية فلسطين بقضية الأراضي المحتلة (1967). وكان منطلقهما وقتها التكيّف مع المناخات الدولية والإقليمية، الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية وسيادة الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم (مطلع التسعينيات). لكن هذا التكيّف كان مكلفاً وزائداً عن الحد، ونجم عنه اختصار شعب فلسطين بفلسطينيي الضفة والقطاع، وتحول حركة التحرر الوطني إلى سلطة، وإنشاء علاقات تنسيق أمني مع المحتلين، وكلها أمور أدت إلى ترهل بنى الحركة الوطنية الفلسطينية، وخبو روحها الكفاحية، وإثارة الشكوك بين الفلسطينيين حول معنى وجودهم كشعب.
وباختصار، فإن عقم مسيرة التمرد على أوسلو، أو إصلاحها، لاسيما في عهد أبومازن، كان يتأتى من تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، وإزاحة الرواية الفلسطينية من كونها رواية متأسسة على النكبة (1948) إلى رواية تتأسس على إنهاء الاحتلال الذي بدأ في 1967، أي لصالح كيان فلسطيني لجزء من شعب في جزء من أرض مع جزء من الحقوق.
لعل ذلك كله يفسر حال التخبط في أداء القيادة الفلسطينية، في عهد محمود عباس، الذي وقع في أخطاء كثيرة، دفعة واحدة، في فترة قياسية، فهو في الأشهر القليلة الماضية فقط، أوقف قرار المجلسين المركزي والوطني القاضي بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، ثم تخلى عن عملية الانتخابات، وأطاح معها بمباحثات إنهاء الانقسام، ثم أتت عملية قتل الناشط الفلسطيني نزار بنات، وفضيحة اللقاحات ضد كورونا، وقمع الأجهزة الأمنية للمتظاهرين، والمشكلة الأكبر أن كل ذلك أتى على خلفية خذلان هبة القدس، كأن القيادة الفلسطينية ترى أن اتفاق أوسلو، وكيان السلطة، أهم لها من شعبها، أو من حقوق شعبها.
هذا كله يبين خواء السلطة الفلسطينية، وأنها أضحت مجرد سلطة تحت الاحتلال، لا أكثر من ذلك، كما يبين ذلك حاجة الفلسطينيين إلى استعادة حركتهم الوطنية كحركة تحرر وطني، وإعادة بناء كياناتهم السياسية، وفي مقدمتها منظمة التحرير، وفق رؤية وطنية جامعة، تتأسس على وحدة الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.