تحل علينا ذكرى ثورة 23 يوليو 1952 هذه الأيام معلنة مرور تسعة وستين عاماً على خروج الجيش المصرى من ثكناته معلناً انتهاء عهد الملكية وبداية عصر الجمهورية! ولكن في هذه السنة يبدو أن تغييراً جذرياً قد وقع في سياق الحياة المصرية ليجعل الحديث عن ثورة 23 يوليو يختلف عن سياقاته الماضية والمستمرة منذ ما يربو على نحو سبعين عاماً، من تراشق وتراشق مضاد من كلا الجانبين المتفقين والمختلفين حول ماهية ثورة 23 يوليو في مقابل العهد الملكي!
وهذا الحدث السياسي الجديد هو صك شعار عرف بـ"الجمهورية الجديدة" من قبل النظام السياسي المصري الذي أتى بعد ثورتي 25 يناير/كانون الثاني و30 يونيو/حزيران، في محاولة لتدشين أو إعلان شكل سياسي واقتصادي واجتماعي جديد، مما يقطع بأن الحديث عن ثورة 23 يوليو سيختلف حتماً هذه المرة، لماذا؟!
لقد كان إعلان بيان الجيش يوم 23 يوليو 1952 قاطعاً بأن انقلاباً عسكرياً قد وقع في مصر، وأن نهاية العصر الملكي قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، وأن البيان راهن في كلماته على "أن مصر كلها (الشعب) ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب"، وقد صدق المصريون البيان وتفاعلوا معه وساندوه، مما جعل موقف الجيش يزداد قوة في مقابل الملك ورجاله والإنجليز وقوة رجال الإقطاع.
وقد تسارعت الأحداث وسقط النظام الملكي، وأعلن النظام الجمهوري بقيادة الضباط الأحرار، ولكن في غمرة الشعور بنشوة الانتصار غير المتوقع نجاحه بهذا القدر الباهر، يبدو أن هناك من فطن لتوصيف ما قام به الجيش، وقام بصك تعريفات لتبدو قريبة من الشعب، خصوصاً أن الضباط الأحرار راهنوا منذ اللحظة الأولى على التفاف الشعب حولها، ومنها "الحركة المباركة" على سبيل المثال، ولكن تم اعتماد مصطلح "ثورة 23 يوليو" ليكون عنوان ما قام به ضباط الجيش من أجل التغيير .
ولكن مع مرور عشرات السنوات لا زال هناك من يستهلك نفسه ووقته في محاولة تعريف ما حدث يوم 23 يوليو 1952، هل هو انقلاب أم ثورة؟! ولكنني أميل لكونه ثورة.. لماذا؟
إن الثورات تقوم على مبادئ، ومفكرين ينظرون لها، وقادة يقودونها نحو النصر والتغيير، وهذا ينطبق على الثورة الفرنسية في فرنسا، والثورة البلشفية في روسيا، ولكنه لا ينطبق بالتأكيد على الثورات الشعبية التي تكون أشبه بالانتفاضات التي تحمل مطالب مشروعة لكن تفتقر للتنظيم والإطار الفكري، بل تفتقر لقائد جامع تلتف حوله الجماهير . وتلك الثورات الشعبية هي السائد في التاريخ المصري إذا استثنينا "الثورات المسلحة" قطاعات سكانية معينة ضد سلطة الحكم في العاصمة، وبالتأكيد ثورة 25 يناير في مصر ليست استثناء من هذا التحليل.
وعليه، فإن الثورة عندما تحكم فإنها تعمل على خلق حالة مفاصله تاريخية بين الماضي والحاضر، والعمل على تغيير مجرى نهر الحياة في اتجاه آخر يعزز مكانتها ورؤيتها تجاه تغيير المجتمع، وعليه فإن الحديث عما جرى في 23 يوليو 1952 من أنه ثورة أم انقلاب؟ يصبح حديثاً مختلطاً يجب التدقيق فيما حدث بدقة لبيان الفارق الضئيل بين الثورة والانقلاب.
إن ما يجمع حركة الضباط الأحرار بمنطق الثورات، هو المبادئ الستة التي أعلنوها كإطار جامع، وقادة قادرين على تنفيذ الوعود، لكن الحركة كانت تفتقر لإطار فكري ومنظرين في الداخل الشعبي سرعان ما تجاوزت بالتفاف الشعب حول الجيش، وعليه يصبح الشق الثاني من الثورة هو الأهم للحكم عليها ألا وهو ما الذي حدث لنؤكد أن ما حدث قد تحول لثورة ممتدة غيرت مجرى نهر الحياة في مصر ؟
مع ترتيب البيت الداخلي في بدايات حركة الضباط الأحرار ، بدأت تغييرات كبرى تنذر ببداية عهد جديد كلياً، فقد تم إنهاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري لأول مرة في التاريخ المصري، وحل الأحزاب السياسية واستبدالها بحزب واحد وهو الاتحاد الاشتراكي، وجرى إنهاء النظام الاقتصادي القائم على الإقطاع الزراعي واستبداله بالنظام الاشتراكي، كما أعلن لأول مرة منذ ما يربو على القرنين والنصف من حكم الأجانب لمصر منذ انهيار الدولة الفرعونية القديمة عن تولي المصريين دفة الحكم بعد تلك الفترة الطويلة وذلك مع الانتهاء الفعلي، جلاء القوات الإنجليزية المحتلة لأرض مصر.
ثم بدأت عملية التحديث تطال كل القطاعات حتى كان الحدث الأبرز في التاريخ المصري الحديث وهو تكون طبقة متوسطة مصرية لأول مرة في التاريخ في حجم مساحتها المجتمعية ودورها المؤثر في الحياة المصرية على كافة الأصعدة.
ومن هنا يصبح الجدل حول فكرة الانقلاب أو الثورة عقماً فكرياً وتكلساً لأناس لا تريد أن تسمع أو ترى أو تقرأ أو تبحث عما جرى قبل وبعد يوم 23 يوليو 1952، لقد حدثت المفاصلة بين عهدين ونظامين عالمين مختلفين، ولم يعد الماضي قابلاً للتكرار، ولكن هل لا زالت ثورة يوليو صالحة حتى بعد قيام ثورتي 25 يناير و30 يونيو ويكون الحديث عن جمهورية جديدة بمثابة استكمال لها؟ أم أن الجمهورية الجديدة بداية جديدة ومختلفة؟!
مما لا شك فيه أن شرعية ثورة 23 يوليو سقطت بعد نكسة 1967، وسقط مشروعها السياسي داخلياً وخارجياً، وهذا على لسان منظرها الأول الكاتب الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهو ما أكده الرئيس عبدالفتاح السيسي، عندما أشار إلى تدهور الدولة المصرية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً قائلاً "بأنه ليس هناك دولة بل شبه دولة بعد نكسة 67″، مما يقطع الطريق حتى على أنصار دولة يوليو بأنها لا زالت موجودة وراسخة بل إنها تحكم لمجرد استمرار قادة الجيش في حكم مصر وهذا ليس صحيحاً بالمرة.
إن ما يؤكدة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على قيام "جمهورية جديدة" يجعلنا نتساءل حول ماهية تلك الجمهورية! وما هي أبرز ملامحها؟
من المؤكد أن الحديث عن شكل مكتمل للجمهورية الجديدة هو شيء غير منطقي، ولكن نستطيع أن نتلمس بعضاً من جوانبها، فالرئيس السيسي يبدو أنه معجب بالتجربة الاقتصادية للرئيس عبدالناصر، ولكن ليس باشتراكيتها بل بشكل رأسمالي بمفهوم التنمية الشاملة والتي تطال كل مناحي الحياة في مصر، ولكنه يعتب على عدم وجود منظومة إعلامية كما قال سابقاً: "عبدالناصر محظوظ بإعلامه" تسانده، ربما لعدم وجود إطار فكري معين يحدد ملامح وشكل الحكم. الحديث عن ثورة شعبية ساندها الجيش في 30 يونيو 2013 ليس مسوغاً لقيام مشروعية لجمهورية جديدة إلا إذا غلفت بإطار فكري يحدد ملامحها وطريقة تعاطيها مع الداخل والخارج.
النظام الاقتصادي للجمهورية الجديدة في حال اكتماله سيعد مفاصلة تاريخية مع نظام 23 يوليو، بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، وبالتالي سيحدث تغير اجتماعي بدأت بوادره في الظهور متمثلة في تآكل الطبقة المتوسطة حتى تنتهي وطأة التغيير من النظام الاشتراكي للنظام الرأسمالي وتتشكل ملامح المجتمع النهائية ولسنوات قادمة. وكذلك النظام السياسي الذي يبدو أنه يماثل تجربة ثورة يوليو، لكنه بالتأكيد لن يتكرر بسبب عدم معقولية التكرار في أزمنة سيادة التكنولوجيا المعرفية، وهو بعد ما زال في طور التشكل.
وعليه، فإنه على الرغم من عدم اكتمال الشكل النهائي لما يعرف بـ"الجمهورية الجديدة" للنظام المصرى الحالي، فإنه بالقطع لن يكون امتداداً لثورة 23 يوليو 1952، وعليه، فإن الاحتفال بتلك الثورة لا يعدو كونه تذكيراً وتعريفاً للأجيال الحالية بمن قام بإنشاء أول جمهورية في التاريخ المصري.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.