غزوان جبار، واحد من قبيلة الجرحى "التّشارنة"، في البصرة. أصيب عصبه "الكُعبري" بضرر دائم بحسب تشخيص اللّجان الطبيّة، تلف هذا العصب بضربة السلاح القاضية معناه أنّ كتف غزوان ويده المرتبطة بها مجرّد ديكور من اللحم والدم، أو زائدة دودية ثانية!
عدد نفوس الجرحى "التّشارنة" عموماً تجاوز الـ"خمسة وعشرين ألف جريح"، بحسب المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب. الزائدة الأممية في العراق التي تمثّلها السيدة بلاسخارت تقتصر على ارتداء ثياب بألوان مميّزة، تناسب هذا اللاعب السياسي، أو تلك الضحية المشهورة.
العقل الأوروبي المكوّن منْ تلافيف أممية، صنعت من الخمسة الكبار، دائماً ما كانت سفينة حراكها في العراق من النوع الإفريقي. ملاحظات الميدان هذه يمكن اختصارها في: ابتسامات رسمية، وطقوس إعلامية، تشبه تقديم الخرز الملوّن. طبعاً هذا كان قديماً، أمّا الآن فهي تحرص على تغليف البلدان الفاشلة مثل العراق بأغلفة ملوّنة وتقديمها للعالم!
جرحى البصرة
غزوان ذو الزائدتين الدوديتين! واحدة في جسده، والثانية ركّبت له من قبل الأحزاب وميليشياتها، الحكومة ووعودها، والتجاهل الأممي.
بدأت رحلة الحج العلاجي له من مستشفى البصرة التعليمي، لتنتهي في المستشفى "الجمهوري"، هذان المستشفيان الحكوميان في محافظة البصرة هما بحسب علي كاظم من "أجريا الفحوص لمعظم الجرحى والمعوقين من متظاهري تشرين"، لم تفلح هاتان المؤسستان ولا غيرهما في تقديم علاج.
علي كاظم الذي هو واحد من ممثلي "التشارنة" الجرحى في البصرة، اتهم التيار الصدري، الممسك بتلابيب وزارة الصحة، منذ سنين، بأنّه هو من "سوّف علاج الجرحى".
غزوان من جانبه رفض أن يبصم بأصابعه الخمسة المتبقية، على "اتهام التيار الصدري". كان لديه تفسير آخر: "أعتقد أنهم لا يمتلكون الأجهزة والمستلزمات"، ليفضح بعدها عرفاً سلوكياً، بين كثير من الأطباء العراقيين، مصنوعاً من الفساد، والدرجة صفر من المراقبة الحكومية: "إنّ بعض الأطباء كانوا يحاولون أن يقنعونا بالذهاب إلى عياداتهم الخاصة، لكن أغلبنا نحن الجرحى والمعوّقين، ذوي دخول ماديّة ضعيفة". غزوان لمّح أيضاً إلى بعد نفسي، يخصّ رنين ثورة "تشرين"، التي انطلقت في أول يوم منه، في 2019: "عندما يعلم الأطباء أننا جرحى تشرين يصبحون زاهدين في الاهتمام بنا".
تفسيرات غزوان الذي يبدو عائماً ما بين حلم "تشرين" المجروح وكابوس الواقع، انطبقت أيضاً على نتائج حجّه العلاجي، إلى العاصمة بغداد، والتي تبعد عن البصرة بحوالي 550 كم. حيث اضطر مع خزعة مختارة من "التشارنة" -المصابين بأضرار جسدية دائمة– بلغت الخمسة عشر فرداً، الذهاب إلى بغداد، عسى أن تكون البيمارستانات في العاصمة أفضل ولو قليلاً.
انتهت الرحلة -بحسب علي كاظم- بتحويل مدير شؤون المواطنين، في وزارة الصحة لملفاتهم، إلى "مستشفيات تُقرّر إن كان من الممكن علاجهم داخل العراق أو خارجه". الأطباء في تلك البيمارستانات أخبروا بعض "التشارنْة" وكمثال: "من الممكن أن نجري لكم عمليات لكن بدون ضمانات".
المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، والذي يديره عمر عبدالله فرحان، وثّق أعداد جرحى محافظة البصرة، مبيّناً أنهم يشكّلون ثلث جرحى تظاهرات "تشرين"، في عموم العراق تقريباً، هذا الثلث بحسب فرحان يبلغ "سبعة آلاف وسبع مئة".
"يونامي" في العراق، التي يبدو أنها تشعر بالخجل من مدّ يد العون لهؤلاء الجرحى، لم تقم بحسب فرحان إلّا بالتالي: "للأسف لم تقدّم أي وسيلة علاج، ولم تساعد المتظاهرين في محنتهم. أمّا المنظمات الدولية ربّما تكون قد ساهمت، ولكن بشكل محدود بحسب مجسّاتنا".
ربما على السيدة الأممية –نسبة إلى السيد بلاسخارت– أن تعلم بأن سقف طموحات غزوان التشريني هي: "توفير العلاج له ولنظرائه لا أكثر".
مقلاة تشرين البصرية
"التشارنة" الأوائل نصّبوا ساحة التحرير في العاصمة بغداد، وبقية المحافظات العراقية الجنوبيّة، كمائدة إفطار احتجاجية، أكبر من شقيقة "تشرين" الأكبر سنّاً، في محافظات العراق الغربية.
تلك الشقيقة هربت من دائرة الاهتمام الشعبي، بسبب الأحذية الزجاجية الضيّقة، التي لم تكن صالحةً لجميع أقدام الشعب، الإعلام المحلي والعربي كان بمثابة "سعلاة" مع الشقيقة الأكبر، هذه "السعلاة" كانت إسكافيّةً سيئة، اعتمدت على المقاييس الطائفيّة.
الإعلام المحلي اختصر الشقيقة الأكبر كقصير قامة من سلالة "لويسات" فرنسا. صنع الإعلام العربي له كعباً طائفياً عالياً، يمكّن الشقيقة الأكبر لـ"تشرين" من أن تقف طويلةً في حلبة الرقص مع شقيقاتها العربيات.
المفارقة أنّ تشرين الثورة –قامت بدون قصد- بحقن العالمين العربي والعالمي بفاكسين ينهي رؤية العراق، كـمحمية طائفيّة وإيرانيّة، طبعاً لا أحد حتى هذه اللحظة ما عدا "التشارنة" يجرؤ على مغادرة البيانو الطائفي، إذ لن تصنع مغادرته سمعة موزارت وطني!
علي كاظم مثلاً، والذي بصم في دفتر حضور "ثورة" تشرين" بأصابع غارقة في النفط كان يعمل مع إحدى الشّركات النفطيّة الأجنبيّة، والتي تغرق جيبه بدخل شهري ثابت، سهّل له امتلاك بيت خاص به أيضاً.
جمع بين كاظم وبقية "تشارنة" البصرة مخيال ثوري مشترك، مفاده: لن تحتاج "تشرين" إلّا لربيع من الأيام، يحصد الجميع بعدها غلال تغيير النظام.
هذا المزاج الحالم حرق دخله الشهري، نظّف يديه من النفط، وترك بيته وبيوت عائلته خربة، لا يستطيعون حتّى تأجيرها لكي يعتاشوا على دخلها، في الأماكن التي نزحوا إليها داخل العراق.
كانت الساحرة الميليشياوية وعصاتها الشهيرة المعروفة بـ"الطرف الثالث"، قد بدأت بتنظيف ساحات التظاهر من "التشارنة"، بالرصاص الحي والقنابل الدخانية. هكذا أصيب المتظاهرون ومنهم كاظم بأوّل جرح في المعنويات، وامتلأت رواياهم بغبار الموت.
فجأة الاكتشاف كانت أنّ "تشرين" ما زالت رضيعاً يحبو، وهي بحاجة ماسّة إلى الوقت والوعي لكي تكون قادرةً على النمو، الخوف من التصفية الجسديّة دفع المتظاهرين من أهل البصرة إلى عقد صفقة شبه جبريّة مع التيار الصدري، كاظم قال عن ذلك: "وفّروا لنا الأمان، وتاجروا بنا لتحقيق مصالحهم السياسيّة".
كانت دماء "تشرين" قد بدأت بتلطيخ جدران الإعلام، من بغداد إلى واشطن. الرصاص الحي وشقيقه المطاطي، ولوحات القنابل الدخانية في الرأس كانت قماشة الرسم المفضّلة، للعنف والقمع الذي مورس بحقّهم.
ترافق هذا مع نزف معنوي آخر، بعض المحسوبين على هؤلاء "التشارنة" بدأوا بهجرة شبيهة بأسماك السلمون، تحدوا تيار الثورة، وفقسوا بما حملوه من فهم لـ"تشرين" عند الحكومة والأحزاب العراقية.
علي كاظم قال عن هؤلاء "الثوريين السلميين": "بيّنوا للحكومة والأحزاب أنّ الكثير من التشرينيين، خرجوا من أجل الحصول على الخدمات والوظائف". كاظم وجد من الضرورة أن ينتقد "تشرين" بتفسير خاص له: "ليس لديهم وعي سياسي خاص بهم، أإنّ نسبة الساعين منهم إلى تغيير حقيقي لمعادلات النظام في العراق قليلة جدّاً، أمّا الباقون فقد خرجوا بوعي أبسط".
النتيجة التي حققتها دماء أبناء "تشرين" من البصريين، ضمان إتمام صفقة مهمة بين محافظ البصرة والتيار الصدري، تولى إثرها قيادي مهم في التيار منصباً دسماً له علاقة بالتوظيف والمشاريع.
الأهم، وبعد رفع التيار الصدري يده عن المتظاهرين علت موجة استهداف المشاركين، في ثورة "تشرين". كمثال اعتدت مجموعات مسلّحة، معروفة بانتمائها إلى أحزاب معيّنة على بعض الناشطين البصريين، دخلت إلى بيوتهم وكسّرت أضلاع أمهاتهم، كان هذا ما حدث مع والدة علي كاظم، بالإضافة إلى ما تعرّض هو إليه شخصياً.
كاظم؛ الذي اضطر للفرار حاليّاً من البصرة يعيش حالياً على مئة وخمسين ألف دينار عراقي في الشهر، تكفيه لتناول وجبات مستمرة من الطماطم والبيض. هذه الوجبة كانت أيضاً الطبق الشهير الذي تناوله وكيل مرجعية النجف "العليا"؛ العتبة العباسية، عندما زار البصرة لمعالجة شحة المياه. كاظم علّق على ذلك: "إنجازات المرجعية في البصرة هو أخذ الصور"، إذاً هذا الطعام يعمل أيضاً، كدليل –يعيش في الثلاجة- أمام من يدّعون أنّ الثورة والثروة توأم.
موجة الحراك الشعبي في عموم العراق حبلت أيضاً بنشطاء مخفيين قسراً، وثّق المركز العراقي أعدادهم بـ"اثنين وسبعين" ناشطاً.
جرحى وضحايا "تشرين".. مشروع مستمر للاغتيال المعنوي
صفاء السراي أيقونة تشرين تعرّض إلى مصير الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك، رفعت دعوى قضائية بحقّه وهو ميت، كنت قد كتبت عن المحاكمة الشهيرة للخليفة في الكوفة.
سلطة الاستخبارات العراقية، التي لا يُعرف انتماؤها لأي من الوزارات الأمنيّة قاضت السراي، لأنه استهدف الأجهزة الأمنية بالحجارة. كانت هذه السلطة الأمنية حريصةً على أن توصل نسخة من النبش القضائي إلى مؤسسة الشهداء، التي تعنى بتعويض أسر ضحايا الإرهاب، والأخطاء العسكرية.
مدير مركز جرائم الحرب عمر فرحان حاول أن يهيل التراب على السراي، الذي يتعرّض للنبش الأمني: "إنّها محاولة لتشويه سمعة المتظاهرين وإسقاط رموز تشرين"، وعن تفسيره لما قامت به هذه السلطة الأمنية: "هذا الجهاز أصبح أداة طيّعة بيد الأحزاب والميليشيات".
تعويض ضحايا الإرهاب والأخطاء العسكرية عموماً، يقف في طابور طويل من الإجراءات الرسمية، غزوان جبار بيّن سبب عدم قدرة هذا النوع من الضحايا في البصرة على التقدّم في هذا الطابور: "كثرة المعاملات الروتينية من تثبيت الحالة في مراكز الشرطة، إلى الحصول على تقارير طبيّة، ولذا تبدو المسألة معقدة ومتعبة نوعاً ما".
الحاضر الذي يتعرض له هؤلاء الضحايا من البصرة ربّما قد يحتاج منا الاستعانة بالعدسة المكبّرة للجزء الأول من ثلاثية حنا بطاطو، التي كتبها عن العراق، يفصح بطاطو عن اشتراط بريطاني، قيّد قدرة الدولة العراقية الحديثة، عام 1921، عن تطبيق القوانين في جميع أراضيها. مفاده: "يتمّ تطبيق القوانين في حواضر المدن، وتترك الأطراف والأرياف للقانون العشائري "السنينة".
الدكتور علي الوردي عبّر عن تلك الشيزوفرينيا القانونية، في التعاطي مع المناطق العراقية، بعبارات طريفة نذكر فحواها: "الفلاح العراقي يسألك عمّا يحدث في الصين وروسيا، لكن إن ذكرت له شأناً حكوميّاً، علّق: الباب الذي تأتيك منه الريح أغلقه واستريح". هكذا فإنّ العراقي في المناطق الجنوبية لم يتمرّن تاريخيّاً بما فيه الكفاية، على تطويع القانون لصالحه!
علي كاظم ذكر مسألة أخرى قد تبدو للمراقب أنّ القصد منها هو البحث عن حسب أو نسب بعثي، في أعراق ناشطي تشرين: "المعاملات الموجودة عند مؤسسة الشهداء أرسلت إلى هيئة المساءلة والعدالة".
آل جاسب مثال آخر على ما يتعرّض له جرحى وضحايا تشرين، مثالنا هذه المرّة من محافظ ميسان العراقية، الواقعة أيضاً في جنوب البلاد، وعلى بعد 397 كم تقريباً من العاصمة بغداد.
يقول مصطفى -أخو الناشط علي جاسب الذي تعرض للخطف والتصفية الجسدية- عن الجاني الذي ألقي القبض عليه: "كان الأداة، لكن من أصدروا الأوامر له ما زالوا في الخارج". والد مصطفى وكما هو معروف ذهب أيضاً كضحية إضافيّة، لمطالبته بالكشف عن قتلة أبنه.
مصطفى جاسب كان مقبوضاً عليه بحجة الإساءة إلى إحدى المؤسسات الأمنية. لم يتم الإفراج عنه إلّا بعد أن أعطى وعداً، بعدم الحديث عن هذه الجهة، أمام وسائل الإعلام. استغرب مصطفى كذلك من عدم حصول عائلته على نسخة من الأوراق التحقيقية التي تخصّ أخاه ووالده، ونقل القضية قبل العثور على الجاني إلى بغداد، بدون تقديم عائلته لطلب نقلها.
مرجعية النجف "العليا" كان لها موقف مخيّب للآمال، من الضحايا والجرحى "التشارنة". هذا ما أفصح عنه علي كاظم، قال عن ذلك: "عندما شيّعنا شهداءنا ووصلنا إلى العتبة الحسينية، خرج علينا "المتطوعون" بالعصي الكهربائية والسكاكين الصغيرة ذات الشفرات الحادة". كاظم اتهم أيضاً وكيل مرجعية النجف "العليا"؛ العتبة الحسينية بـ"عدم الإيفاء بوعوده بمعالجة جرحى تشرين في المستشفيات التي تمتلكها العتبة".
مؤامرة عدم الرد
حاولت أن أحصل على نسخة من رواية رئاسة الوزراء العراقية، مجلس القضاء الأعلى، وزير الصحة، مكتب وزير الصحة الخاص ومستشاره، محافظ البصرة، محافظ ميسان، مؤسسة الشهداء، والمكتب الخاص لزعيم التيار الصدري. لم أحصل رغم مرور أيّام على أيّة إجابات، النتيجة كانت ورقة من دفتر مدرسي لم تستخدم: بيضاء ومخططة بسطور سوداء.
الشيء الطريف في تقدير المسافات بين المحافظات العراقية أنّها ما زالت تعتمد طبعتين: الطرق الرسمية المكتوبة بالأسفلت، ونظيرتها اللارسمية المدبلجة بالطرق "النيسمية" أو الترابية، والطرق المسدودة، أمام من يبحث عن رواية رسمية، بعد 2003 كما يبدو.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.