تعيش تونس على وقع انسداد أفق سياسي، لا يبدو أنه سينفرج قريباً في ظل الوضع الراهن، الذي عمّق فيروس كورونا جراحه، مع غياب حوار جدي قادر على حلحلته، وأمام فشل الوساطات في تقريب وجهات النظر بين الفاعلين السياسيين، خاصة بعد أن أبدى رئيس الجمهورية قيس سعيّد عدم استعداده لإجراء حوار لا يفضي إلى تغيير النظام السياسي الحالي، واستقالة حكومة هشام المشيشي.
جاء ذلك على لسان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، إثر آخر لقاء له مع الرئيس في قصر قرطاج، حول مبادرة للحوار الوطني، تجمع مختلف الفرقاء لإنقاذ البلاد من العجز السياسي والإجرائي الذي تتخبط فيه.
وأبلغ سعيّد الطبوبي بأنه يريد إحياء دستور 1959 مع إضافة تنقيحات جديدة عليه، ثم عرضه على استفتاء شعبي، وبالتالي التخلي عن دستور 2014. وهو ما اعتُبر انقلاباً، على دستور الثورة التي حمل لواءها يوم ترشح للانتخابات الرئاسية.
كما أكد سعيد ضرورة اعتماد قانون انتخابي جديد، مع الذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، فضلاً عن تغيير أربعة وزراء تحوم حولهم شبهات فساد. ورغم قبول رئيس الحكومة بشرط الرئيس، فإن الأخير تراجع عن موقفه ليطلب استقالة الحكومة كاملة.
كما فشلت محاولة القيادي السابق في حركة النهضة لطفي زيتون، للوساطة بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس حركة النهضة والبرلمان التونسي راشد الغنوشي، رغم اللقاء الذي جمع الطرفين بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى 65 لانبعاث الجيش التونسي يوم 24 يونيو/حزيران الجاري. إذ لم يجتمعا منذ ذلك الوقت، بل عادا إلى شبه قطيعة سياسية عبثية وسط ما تعيشه البلاد من أزمة خانقة.
أزمة يحذر خبراء من أن تتحول إلى سيناريو جديد للبننة تونس، وسط صراع وانعدام ثقة بين الأطراف الحاكمة، وتشكيك من قبل المعارضة.
تونس الديمقراطية الفتية، التي تتصدر الدول العربية في مؤشرات الحرية والديمقراطية، رغم عيوبها، وتملك دستوراً يضمن الحقوق والحريات لمواطنيها، ولديها مجتمع مدني قوي، تعيش اليوم أقوى أزماتها السياسية والاقتصادية منذ عام 2011. علاوةً على الوضع الصحي الكارثي، الذي لم تشهد مثيله منذ عقود، بسبب كورونا.
وتسير البلاد اليوم في طريق محفوف بالمخاطر والفخاخ وانعدام الثقة بين مختلف الأطراف السياسية من جهة وبين أبناء الشعب وأصحاب القرار، وحتى داخل الجسم السياسي الواحد.
ويدفع التونسيون اليوم ثمناً باهضاً للحفاظ على مكسب الحرية، الذي تحقق بنضالات ودماء الشهداء، لكن محاولات تعفين الوضع السياسي وعجز الطبقة السياسية برمتها عن تحمل المسؤولية مع تبادل التهم والانجراف إلى مستنقع العنف جعل "بأسهم بينهم شديد".
مؤخراً، انحصر الصراع بين ثالوث السلطة، رئاسة الجمهورية التي يقود سفينتها قيس سعيد، دون رؤية سياسية واضحة، البرلمان الذي يرأسه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وسط مواجهات بلغت حد العنف داخله، ورئيس الحكومة هشام المشيشي، حليف الرئاسة القديم وصديق الحزام السياسي الجديد.
لكن الصراع المحموم بين الرئاسات الثلاث، لم يكن حول برامج اقتصادية واجتماعية قادرة على تحسين الوضع البلاد، وليس حول استراتيجية وطنية صحية للحد من انتشار فيروس كورونا، بل مثّل الصراع وجهاً آخر من أوجه الاستحواذ على السلطة، من يملك أكثر صلاحيات يملك القرار.
منذ انتخاب راشد الغنوشي رئيساً للبرلمان في تونس بعد فوزه في الانتخابات التشريعية عام 2019، تحول البرلمان إلى حلبة للصراع بين الأغلبية والمعارضة، خاصة عبير موسى ومريديها، الذين عملوا على ترذيل المشهد السياسي عموماً، بكل الوسائل القانونية وغير القانونية، وأتاحت لنفسها تصوير النواب على المباشر دون استئذانهم ومنع الجلسات العامة والاعتصام داخل المجلس واقتحام المكاتب واستخدام مكبرات الصوت لمنع المتدخلين من الحديث تحت قبة البرلمان.
في المقابل، يبدو أنّ حركة النهضة تفكر جدياً مع حليفها قلب تونس في تشكيل حكومة سياسية تقوم على أساس الاستحقاق الانتخابي، تتحمل فيها مسؤولية أمام الشارع التونسي بشكل واضح، بعد أن ضيّعت على نفسها فرصة تشكيلها بعد انتخابات 2019. وتسعى إلى أن تجمع حولها حزاماً سياسياً قوياً بأغلبية برلمانية مريحة، تضم شركاءها الحاليين ومستقلين.
خاصة وأن بوادر تصدع بين الحركة والمشيشي، لاحت للأفق حول بعض القرارات التي اتخذها الأخير دون العودة للحزام، علاوةً عن عدم اتفاق حول الدور السياسي لرئيس ديوانه والكاتب العام للحكومة.
في الأثناء، يشهد القطاع الصحي في البلاد أسوأ فتراته، مع غياب التجهيزات الكافية لسد العجز الذي عرته جائحة كورونا، وحولت تونس إلى بلد منكوب يستقبل الإعانات والمساعدات الدولية، التي جاءت عقب تصريح المتحدثة الرسمية باسم وزارة الصحة نصاف بن علية، حين أعلنت انهيار المنظومة الصحية، لتسارع الوزارة في تفنيد ذلك بالقول إنها "ستبقى صامدة في وجه كل الصعوبات والطوارئ".
ولم يتحرك الفاعلون السياسيون إلا متأخراً، بعد وساطات لشخصيات سياسية ودبلوماسية، ساهمت في دخول بعض المساعدات، ومنها تحركت الرئاسة عبر اجتماع مجلس الأمن القومي لتصدر بعض القرارات حول تكليف القوات المسلحة بمسح كامل الجمهورية لتلقيح المواطنين، فضلاً عن تركيز مستشفيات ميدانية متنقلة في الجهات بحسب تطوّر مؤشرات الحالة الوبائية.
ليخرج رئيس الحكومة هشام المشيشي، بعد ساعات، ويعلن عن مجموعة من القرارات العاجلة للحد من انتشار فيروس كورونا منها الاتفاق مع مخبر جونسون آند جونسون، لشراء 3.5 مليون جرعة لقاح. وأشرف بعد يومين على مجلس الوزراء الذي صادق على مشروع القانون الأساسي المتعلق بالطوارئ الصحية.
ورغم التحركات الأخيرة من قبل رأسي السلطة التنفيذية، التي بدت وكأنها مواجهة تحت غطاء جديد، فإن الشارع التونسي غير راضٍ عن التعامل مع الجائحة، الذي وصف بالمتأخر جداً خاصة أن البلاد مصنفة في المراتب الأولى للإصابة والوفاة بالفيروس.
عانت البلاد طيلة أشهر من وضع صحي كارثي، لم يكن من أوليات الرئاسات الثلاث ولا المعارضة، التي قسمتها الخلافات حول الصلاحيات، وتراشق التهم والخطابات الجوفاء، وتركت الشعب يواجه مصيره بنفسه. وصعدت إلى السطح ملفات تعديل الدستور وسحب الثقة من رئيس البرلمان، عوض الوحدة الوطنية الصماء في هذا الظرف الاستثنائي.
وربما ساهم ذلك في تراجع حاد لمنسوب الثقة في الشخصيات السياسية، أبرزها رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي خسر في شهر واحد 10 نقاط كاملة، (من 40 إلى 30%) وفق نتائج "الباروميتر السياسي"، الذي أنجزته مؤسسة سيغما كونساي وجريدة "المغرب" التونسيتين. كما تراجعت نسبة الرضا عن الرئاسات الثلاث بشكل لافت.
كما بلغ مستوى التشاؤم التونسيين وفق سبر الآراء ذاته، الذي صدر يوم 5 يوليو/تموز الجاري، رقماً قياسياً، حيث يرى 93% من التونسيين أن البلاد تسير في الطريق الخطأ. وينعكس التشاؤم على تقييم التونسي لوضع أسرته الحالي وتوقعاته للسنة القادمة ولمستقبل الجيل المقبل.
وتبقى البلاد اليوم أمام امتحان عسير، بين أطراف سياسية عاجزة، تتهافت على السلطة "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.