من أهم مقوِّمات البحث العلمي الصحيح: دقَّة المعلومة، وصحَّتها، وتوثيقها؛ لأن ذلك يساعد الباحث على الاستقراء الناجح، الذي يَنتُج عنه استنباطٌ صحيحٌ، يؤدي إلى التعامل البنَّاء مع موضوع البحث، فيخرج الباحث في النهاية بعمل جيد يمكن الإفادة منه في بناء نظريات صحيحة تنطلق بالمنظومة العلمية خطواتٍ في طريق التَّقدُّم.
وقد أفادت وسائل التقنية الحديثة، ابتداء من عصر الطباعة، في توافر المصادر والمراجع العلمية، التي من شأنها تيسير عملية البحث العلمي، وجعْلها أكثر إحاطة بعناصر موضوع البحث، لكن في الوقت نفسه ساعدت هذه الوسائل على ظهور جماعات من المخرِّبين، اندفعوا إلى العمل في مجال البحث العلمي والتحقيق دون أن تتوافر لديهم أدوات ذلك العمل، التي في مقدمتها سعة الاطلاع، والقدرة على الفهم والتحليل والاستنباط، فاكتظَّت المكتبات بمصنَّفات لا قيمة لها، ولا طائل من ورائها إلا التدليس والتزييف.
وفي عصر العولمة والانفتاح المعرفي الذي يعيشه العالم منذ سنوات أتيحث وسائل علميَّة ومعرفيَّة لم تكن متاحة من قبل، كان من شأنها لو تمَّ التعامل معها بطريقة صحيحة أن تؤثر بطريقة إيجابية ملموسة على عملية البحث العلمي في شتى المجالات؛ حيث أصبح من السهل جدّاً تحليل المعلومة، واستقراء الشواهد والقرائن التي تساعد في إصدار حكمٍ صحيحٍ بشأنها، لكن نجد أن بعض الباحثين يطرحون كل ذلك جانباً، ويتعاملون مع المعلومة بما يوافق أهواءهم، فلا نجد شيئاً جديداً لديهم سوى المزيد من المغالطات، والنُّقول المرتبكة، والتوثيق العشوائي الذي يتَّكئون عليه بعد شيء غير قليل من التحريف الذي يدلِّسون به معلوماتهم بقصدٍ أو بغير قصد، والأدهى من ذلك أن بعضهم يخوضون في موضوعات لا عِلم لهم بها، ولا يعرفون شيئاً عن ماهيَّتها أو منهجيَّتها التي تمكِّنهم من سَبْرِ أغوارها، فيخرجون في النهاية بمُنتجات عبثيَّة تستنزف وقت وجهد المختصِّين في نقدها وكشفِ عوارها.
وبذلك أصبحت عملية البحث العلمي الآن تواجه تحدِّيات أشدَّ خطراً منها في عصر ما قبل التكنولوجيا؛ حيث يقوم بعض المخرِّبين بممارسة هوايتهم التي تتمثل في الدفع بكميات ضخمة من المعلومات المغلوطة، التي تتضمَّنها بحوث علمية ضعيفة أو تحقيقات سيئة لكتب التراث، أو مبالغات في تقريظ كتب رديئة، ومبالغات أخرى في الحطِّ من شأن كتب جيدة، أو مؤلفات نقدية قائمة على تنظيراتٍ هدَّامة، وذلك كله في إطار عاملٍ رئيسٍ هو الجهل، وهدف وحيدٍ هو التضليل؛ ولا يمكن القول إن هذا (العبث البحثي) لم يكن موجوداً قبل عصر التكنولوجيا؛ لكن يمكن التأكيد على شيوعه في العصر الحاضر، بحيث يُعَدُّ ظاهرة يجب التصدي لها؛ فذلك (العبث) كان في العصور السابقة محدود الانتشار والأثر، بخلاف عصرنا الحالي الذي توافرت فيه عوامل الذُّيوع والانتشار.
فهذا العصر الذي أتيحث فيه وسائل التمحيص والتدقيق اختلطت فيه بعض الأمور لدى العامَّة، وظهرت كيانات من العابثين، أقحموا أنفسهم في مجالات شتى، بعضها يفوق قدراتهم وقدرات المؤسسات التي يعملون لحسابها، ومِن بين تلك المجالات التي أصبحت فريسة لتطفُّلهم مجال البحث العلمي وتقنية المعلومات؛ حيث أصبح يخوض في هذا المجال بعض من لا معرفة لهم بطبيعته أو أدواته أو طرقه المنهجية أو نحو ذلك من أسس وقواعد البحث العلمي. وبعض الباحثين يتلقَّفون "قُشور الكلام"، أو ينساقون خلف لفظ مصحَّف أو معنى محرَّف، ثم يحاولون تأصيله باعتباره صحيحاً، ويؤسِّسون عليه نظريات أو مصطلحات واهية، وينسبونها زوراً إلى غير قائليها، دون تدقيقٍ للنظر أو إِعمالٍ للفكر، ولا يعنيهم سوى نظرة سطحية لمعلومةٍ هنا أو هناك، يتشبَّثون بها في دعم أبحاثهم الضعيفة، دون اهتمام بمدار الكلام أو دلالة اللفظ أو سياق التعبير، فنَتَج عن ذلك كمٌّ من المؤلفات التي تدور في حلقات مفرغة لا تصطدم فيها بمعلومة ذات قيمة، وقد ساعد على انتشار هذه الظاهرة وجود أعداد كثيرة من دور النشر والمؤسسات البحثية التي لا خبرة لها بهذا المجال، إضافة إلى اعتمادها على أناسٍ غير مؤهلين لهذا العمل، الذي يتطلب القدرات العقلية والفكرية، والحسَّ النقدي المرهف القادر على التعامل مع المعلومة، وفْق قواعد العلم الذي يندرج تحته موضوع البحث، ولا تكفي كثرة الممارسة لإتقان العمل البحثي؛ لأن العلم هبة من الله تعالى، وقد بيَّن الله ذلك في مواضِع عديدة من القرآن؛ منها قوله تعالى: (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [النحل: 27]، وقد وردت هذه الجملة في تسع آيات من القرآن الكريم، كما ورد معناها بألفاظ مختلفة في آيات أخرى، والاستعداد العقلي لفهم المسائل العلمية والتعامل معها هو أمرٌ ملازمٌ لصاحبه منذ صِغَره؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما بعثَ اللهُ عزَّ وجلَّ نبيّاً إلا وهو شابٌّ، ولا أُوتِيَ عالمٌ عِلماً إلا وهو شابٌّ" [أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6/ 283/ 6421)].
وقد وقعت مؤلفات كثيرة ما بين تراثية ومعاصرة، ضحية لهذا العبث الذي تعيشه المنظومة البحثية على أيدي أولئك الدُّخلاء، الذين تعرَّضوا لهذه المصنَّفات فأفسدوها بجهلهم، كما وُلِدَت على أيديهم مصطلحات ومفاهيم ونظريات لا معنى لها، فأصبح على الباحثين الجادِّين تنقيح المصنَّفات الجيدة وتهذيبها مما لحق بها، إضافة إلى الكشف عن مثالب المصنفات الضعيفة التي يضرُّ وجودها بالمنظومة العلمية.
ولن يكون الأمر صعباً إذا تمَّ التعامل مع المعلومة بطريقة منهجية شمولية صحيحة، بحسب القواعد العامة للعمل البحثي، والقواعد الخاصة بكلِّ علمٍ، مع مراعاة الالتزام بالحيادية والموضوعية، وتقديم القواعد على الرأي، وترك التقليد في الأمور التي يتسع فيها المجال للاجتهاد وفق آليَّاته الصحيحة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.