من المفترض أنَّ النظام المصريَّ، ممثلاً في الشخص الأهمّ داخله، عبدالفتاح السيسي، حاول عدة مرات ترسيم ما بات يُعرف بـ"الخطّ الأحمر"، الذي يرمُز لقوة الدبلوماسية المصرية على ردع خصومها عن تنفيذ مخططات تتعارض مع مصالحها قبل اللجوء إلى الخيار الأخير الذي يخشاه الجميع؛ القوة العسكرية.
روّج النظام إلى نجاح سياسة استخدام "الخطّ الأحمر" في تكبيل خصومه عن المضيّ في مخططاتهم التي تتعارض مع المصالح المصرية في ليبيا وشرق المتوسط، وكان من باب أولى، كما يقال، أن تُجدي هذه السياسة نفعاً في ملفّ المياه الحيويّ بالنسبة لـ"هبة النيل"، التي استمرّت في المفاوضات مع الإثيوبيين لنحو عقد، دون أي جدوى.
حاول النظام المصريُّ ردع إثيوبيا بمنطق الخطِّ الأحمر أول مرة بشكل واضح، إبان الملء الأول، على الحدود الغربية المصرية، حينما كان يحضر السيسي اصطفافاتٍ عسكرية تستعدّ لكبح تقدم قوات حكومة الوفاق الوطنيِّ باتجاه الشرق، بعد إعاقة تقدم قوات حفتر المدعومة مصرياً وإماراتياً باتجاه طرابلس، ولم يستجب الإثيوبيون.
قبل الملء الثاني، الذي يعدُّ نقطةً فاصلةً جديدة في المشروع الإثيوبيِّ الضخم على نهر النيل، قال السيسي ضمناً، في مؤتمر الاحتفال بتعويم السفينة البنمية الجانحة في قناة السويس، إنَّ هذا الملء خطٌّ أحمر لمصر، رابطاً بينه وبين التأثير السلبيِّ على حصة مصر التاريخية في مياه النيل، وإلا -على حدّ قول السيسي- ستشهد المنطقة "حالةً غير مسبوقة من عدم الاستقرار"، في إشارة إلى تثبيت معادلة جديدة: الشروع المنفرد في الملء الثاني، الذي يعدّ حدثاً نوعياً في مسيرة بناء المشروع الإثيوبيّ، والذي سينتج عنه، بصورة أو بأخرى، تضررٌ في حصة مصر من المياه، خاصة أنّ خطة إثيوبيا للملء تختلف في سنواتها عن المقترحات الحمائية المصرية؛ فإنَّ هذا سيعني استخداماً للقوة العسكريّة.
ليس ذلك تحمساً للعنف، ولكن اتساقاً مع مقتضيات الحفاظ على فلسفة الخطِّ الأحمر، الذي قد تنتهي صلاحيته للردع بهذا الشكل، نحاول أن نجيب عن سؤال: لماذا لا يزال السيسي متردداً في استخدام القوة العسكرية ضدّ المشروع الإثيوبيِّ أو ضدّ المواقع الاستراتيجية الحيوية للنظام الإثيوبيِّ، رداً على تجاوزاته المادية والرمزية في حقِّ المصريين، وسداً للذرائع التي تتساءل عن جدوى كلّ ما أُنفق على الصفقات العسكرية خلال الأعوام الماضية، ما لم يُستخدم في أخطر ملفّ يُهدد أمن البلاد، وهو المياه، ففيمَ يفكر السيسي؟
قلق من الانخراط في تدخلات عسكرية خارجية
لدى السيسي خوفٌ من مسألة إرسال قوات عسكرية مصرية خارج البلاد بأيِّ شكل، سواء كان ذلك من أجل أداء مَهمة محددة لا تستدعي وجوداً عسكرياً طويلاً أو في تنفيذ مهمات عسكرية واسعة تتطلب عملاً مكثفاً ضمن ما يُعرف بمعركة "الأسلحة المُشتركة".
يتحفظ السيسي كذلك على المشاركة في تشكيل أيِّ "تحالفاتٍ عسكرية لأداء مهمات خارج الحدود"، كما يتحفظ على المشاركة ضمن غطاء دوليٍّ واسع لقتال مجموعة من المتمردين الخارجين على النظام الدوليِّ، مفضلاً بدلاً من ذلك التركيزَ على القتال في الجبهة الداخلية، سيناء مثلاً، دون الاستعانة بمساعداتٍ خارجية، إلا في أضيق الظروف، وتنويع وتكثيف التدريبات العسكريَّة مع الأصدقاء الدوليين والإقليميين، والتي تختلف، بكلِّ تأكيد، عن العمليات العسكريَّة المرتبة في الخارج.
رفض السيسي الانخراطَ في مشروع ما يسمى بـ"الناتو العربي"، الذي كانت بمثابة تحالف عسكريٍّ عربيّ يستهدف تحجيم خطر "داعش" وإيران وحلفائها، ما أغضب السعوديَّة التي دعت إلى هذه الفكرة، كما تحفظ على مشاركة الجيش المصريِّ في "التحالف الدوليّ ضدّ داعش"، معتبراً أنَّ ما يقوم به الجيش المصريُّ في سيناء ضدّهم كافٍ للغاية، وأنَّ التحالف بصيغته الحالية يستطيع أن يقوم بالمهمات الموكلة إليه بكفاءة، دون الاستعانة بمصر.
اعتبر السيسي، رغم تلويحه الصارم بالحلِّ العسكريِّ لوقف تقدم قوات الغرب الليبيّ تجاه الشرق، المشاركة المصرية في القتال الدائر هناك نوعاً من "الجرْجَرة"، منوهاً إلى يقظته تجاه أيِّ محاولات لـ"جرجرة" (توريط) الجيش المصريِّ هنا أو هناك، على حدّ قوله في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، كما نتذكر جميعاً، كما وافق، تحت ضغط، ومن باب المجاملة، وتأكيد الدعم المصريِّ لداعميه الخليجيين واتساقاً مع أهمية منطقة "البحر الأحمر والقرن الإفريقيّ" لمصر، على وجود عسكريٍّ محدود، غير برّي، ضمن عمليات معركة "عاصفة الحزم" التي اندلعت عام 2015.
يعتقد السيسي أنَّ هذا التوجس من عواقب أيِّ انتشار عسكريٍّ خارجيٍّ، أو الدخول في مواجهة عسكرية خارج البلاد مع أطراف يمكن إرجاء مواجهتهم بالسياسة والدبلوماسية وممارسة أقصى ضغط ممكن، نوعٌ من الحصافة والحكمة والتعلم من دروس التاريخ، بالإضافة إلى دور ذلك في الحفاظ على الجبهة الداخلية، بعد حركتي يناير/كانون الثاني 2011، ويوليو/تموز 2013، وما شهدته هذه السنوات الأخيرة من آثار اجتماعية واقتصادية سلبية على البلاد.
يعتبر السيسي، أنَّ الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، ارتكب خطأً فادحاً عندما شارك في حرب اليمن، أدى ضمن معادلة التفاعل بين السياسيِّ والاقتصاديِّ إلى أضرار فادحة على الاقتصاد المصريِّ، لاسيما أنَّ الظروف قادت البلاد إلى خوض معركة غير معدّ لها، في يونيو/حزيران 1967، ما زاد الطين بلة، ضمن نظرة تسلسلية للأحداث.
انتقد السيسي مشاركة الجيش المصريِّ في حرب اليمن، وفقاً لجهد شخصي بحثيٍّ سريع، ما لا يقلّ عن 4 مرات علناً، متهماً إياها بأنها أسهمت في تدمير "الغطاء الذهبيّ للعملة المصرية"، وأسهمت ضمن عوامل أخرى أقلّ تأثيراً، في تهاوي قيمة الجنيه أمام الدولار بعد خسارة الغطاء الذهبيِّ، وإدخال البلاد في دوامة الديون التي ما زالت تعاني منها إلى الآن، وبالأخصّ إذا ما نظرنا إلى هذه الحرب ضمن سياقها الأكبر، حيث اضطرَّ الجيش المصريُّ والدولة المصرية، كما يصف السيسي، إلى المشاركة فيما لا يقلُّ عن 3 حروب بعد هذه الحرب، النكسة والاستنزاف والعبور، وهو ما اقتضى إنفاقاً عسكرياً واجتماعياً هائلاً على البلاد، كان يمكن تحجيمه حال عدم اللجوء إلى الخيار العسكريّ في اليمن، خارج البلاد.
وأنقلُ لكم بعضاً من كلام السيسي نصاً في هذا الباب في مناسبتين مختلفتين، الأولى في لقائه مع ساندرا نشأت ضمن برنامج "شعب ورئيس" تحضيراً للانتخابات الرئاسية الثانية عام 2018، حينما سألته عن بداية تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلاد، فأجاب: "في الخمسينيات كان فيه ناس برضو بسيطة وظروفها صعبة، لكن البلد كدولة كان وضعها كويس، لحد 1962، دخلنا اليمن، وقعدنا من 4 إلى 5 سنين هناك، الغطاء الدهب بتاع الجنيه المصري راح، وإحنا دولة معندناش القدرة، وفي 1967 كان موضوع تاني خالص، دخلنا في أزمة كبيرة جداً، وكان هناك حاجة للتغلب عليها وأرقام هائلة مش موجودة".
وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2020 خلال الندوة التثقيفية للجيش، قال السيسي للضباط والجنود الحاضرين للقاء متسائلاً في استنكار: "الغطاء النقدي بتاع مصر راح امتى؟ استهلك في حرب اليمن، القضية اللي لازم تشغلنا كلنا، وجوهر الفكرة والتقدم: الاستقرار".
التاريخ لا يصبّ في مصلحة مصر
من الوارد ألا يستطيع الجيش المصريُّ، حال اللجوء إلى الخيار العسكريّ، أن يتعامل مع السدّ بمنطق: "اضرب وانسَ" (Fire and forget) المستعار من المفاهيم الجويّة الحديثة؛ إذ هناك اعتباراتٌ كثيرة يعرفها المتخصصون قد تُعيق تنفيذ ضربة جوية ناجحة للسدّ، منها المدى والذخائر الدقيقة الفعالة لاستهداف هذا البناء الخرسانيّ الذي يعدّ أحد أكبر المشاريع الإنشائية في العالم، إلى جانب احتمالات حدوث أيِّ خطأ عملياتيٍّ يؤدي إلى الإضرار بالحليف الجديد، والسودان سواء كان ذلك من خلال مياه السدّ، كما يقدر العسكريون الإثيوبيون، أو حال تنفيذ ضربة انتقامية من أديس أبابا إلى الخرطوم.
في هذا التوقيت، سيحتاج الجيش المصريُّ إلى ما هو أكبر من الضربة الجويَّة الخاطفة. سيحتاج إلى الانتشار الميدانيِّ برياً، في المنطقة الحدودية التي تعدُّ مسرحاً للعمليات، بين إثيوبيا والسودان، أو ما تُعرف بأرض بني شنقول.
بطبيعة الحال، فإنَّ الجيش الإثيوبيَّ بدأ منذ الملء الثاني في تكثيف انتشاره الميدانيِّ في هذه المنطقة الاستراتيجية، وبالعودة إلى التاريخ الحديث نسبياً، وهو عاملٌ غير حاسم بالضرورة، فما حدث بالأمس قد لا يحدث غداً أبداً، ولكنه عاملٌ معتبر في دراسة أوضاع الطرفين التفصيلية؛ فإنَّ الجيش المصريَّ لم يكن محظوظاً في القتال التلاحميِّ في بلاد الأحباش، وهو مسمى عرقيٌّ لا يحمل أيَّ دلالةٍ سلبية.
في عهد الخديوي إسماعيل، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وضمن مخططات توسعية مصرية، خاض الجيش المصريُّ معركتين شهيرتين ضدّ الإثيوبيين، انتهت كلتاهما بهزيمةٍ ساحقة للجيش المصريِّ.
بالرغم من أنَّ الجيش المصريَّ كان متفوقاً على نظيره الإثيوبيِّ في ذلك التوقيت بالنظر إلى "التكنولوجيا" المستخدمة وقتها والخبرات الأجنبية التي كان يُستعان بها على المستوى القياديِّ، لاسيما من أمريكا وأوروبا، بل ونجح في تحقيق تقدمات أولية في بداية القتال، إلا أنَّ الإثيوبيين استطاعوا تحقيق النصر على الجيش المصريِّ بفعل عوامل أخرى مؤثرة، منها القوة العددية الضخمة لهم قياساً على بضع مئات من الجيش المصريِّ، إلى جانب تضارب "الثقافات" والخلافات القيادية على رأس الجيش المصريِّ، الذي كان قوامه الميدانيّ على غير علمٍ بالطبيعة الجغرافية والديموغرافية للعدوّ الذي يواجهونه في هذه المنطقة.
في معركة "غوندت" عام 1975، سُحقت القوة العسكرية المصرية المؤلفة من نحو 4 آلاف جنديّ بقيادةٍ سويسرية ودنماركية على يد الآلاف من قبائل الدناكل الإثيوبية، بعد دعوة إلى النفير العامّ من الملك يوحنا السادس، فأبيدَ معظم الجيش، والقيادات الغربية، إلى جانب قيادات مصرية رفيعة مثل أراكل نوبار، نجل رئيس الوزراء المصري نوبار باشا.
وفي معركة "غورا" بالعامّ التالي مباشرةً، والتي اندلعت أساساً رداً على الهزيمة التي مُني بها الجيش المصريُّ في المعركة السابقة؛ أدى خلافٌ ميدانيّ داخلي بين القيادة الأمريكية والمحلية للجيش المصريِّ إلى تمزق بنية الجيش الذي لم يكن ميزان القوى العددية في صالحه، إذ بلغ الطرف الآخر، في بعض التقديرات، 10 أضعاف الجيش المصريِّ، الذي زاد عدده في هذه المعركة، قياساً على المعركة السابقة، إلى نحو 20 ألف مقاتل، ولكن بلا جدوى.
فقد استطاع الإثيوبيون الإمساكَ بزمام المبادرة، موقعين خسائر ضخمة في صفوف الجيش المصريّ، أفراداً ومعدات، جنداً وقادة، حتى تدخل الفرنسيون لإيقاف القتال، وعاد ما تبقى من الجيش المصريّ بخفيّ حُنين، بعد الاستيلاء على كثير من مُعداتهم التي ما زالت محفوظةً في بعض المدن التي شهدت معارك بين الجانبين إلى الآن.
العوامل التي رجحت كفة الجانب الآخر في هذا التوقيت قبل نحو قرن ونصف، هي نفس العوامل التي تعول عليها القيادة الإثيوبية الحالية حال اندلاع مواجهات تلاحمية بين الطرفين، إثر أزمة سدّ النهضة، وهي رجاحة العامل العدديّ للقوات الإثيوبية، التي تدافع عن حلم أمة في التنمية والنهوض، أمام قوات استعمارية غازية، كما يروجون، بالإضافة إلى افتقاد الجانب المصريِّ للخبرة في هذا النوع من الحروب، حتى لو امتلك التفوق التكنولوچي، فما حدث في أكثر من منطقة من الإقليم، خلال الأعوام القليلة الماضية، علّمنا أنَّ الحروب لا تنتهي بالتفوق الجويّ فقط، وهو ما تعلمه القيادة المصرية جيداً.
قصّ شريط حروب المياه
منذ نهاية العهد الناصريِّ، تفتخر الدولة العميقة المصرية التي أرسى السادات قواعدها، مروراً بمبارك ووصولاً إلى السيسي، بأنها دولةٌ لا تسعى إلى الحروب أو الاعتداء أو التوسع أو تهديد الاستقرار الدوليّ بأيّ شكل، بل على العكس، فإنها تنخرط في كثير من الأنشطة للحفاظ على السلام في نطاقها الحيويّ، سواء كان ذلك في قناة السويس، أو مع دولة الاحتلال التي كبرت وباتت كثير من الدول العربية على استعداد للتطبيع معها، أو في رعاية السلام بين دولة الاحتلال والفلسطينيين، وزاد على ذلك مؤخراً التوسع في جهود كبح مواكب الهجرة البحرية إلى أوروبا.
في هذا الإطار، يمكن فهم التأويل الذي اجترحهُ السيسي لكامل التاريخ المصريِّ، حينما قال مؤخراً إنّ الدولة المصرية طوال تاريخها لم تكن يوماً قطّ معتديةً أو مُهددةً للآخرين، رغم قوتها العسكرية، وهو نفس المضمون الذي يتحدث عنه لإجبار المجتمع الدوليّ على التدخل إيجاباً في أزمة السدّ، منعاً لتدهور حياة آلاف المصريين وعدم القدرة على كبح الهجرة غير الشرعية لاحقاً.
باستثناءاتٍ تاريخية بسيطة لا يكاد المؤرخون يقفون عندها، فإنَّ التاريخ الدولي الحديث لم يشهد أيَّ حرب على المياه، وبالتالي يضع النظام المصريُّ في اعتباره عدة أمور: الأول، أن يُقالُ تاريخياً إنَّ القاهرة التي كانت تفتخر القرن الماضي بمشروع السدّ العالي، وقفت حجر عثرة حقيقية أمام مشروع دولة أخرى تشترك معها في نهر النيل لبناء سدّ مشابه. وإنّ القاهرة التي لم تشارك في أيّ حروب منذ 50 عاماً عادت إلى القتال، ولكن في منابع النيل. وإنها لم تضع في حُسبانها أثر ذلك العمل العسكريّ على "الدولة الإثيوبية المُنهكة بالفعل"، كما أنها أول من دشنت حروب المياه في العصر الحديث.
يُعرف هذا القرن بأنه قرن المياه، لا قرن النفط، وبالأخصّ مع زيادة الاحترار العالميّ وارتفاع كلفة الوسائل غير التقليدية للحصول على المياه النظيفة، وفي حال انطلاق القوات المصرية، من القاهرة أو من الخرطوم، باتجاه أديس أبابا لشنّ ضربة انتقامية رداً على ممارساتها في مشروع السدّ؛ فإنّ ذلك إن لم يفتح المجال لمزيدٍ من الحروب من هذا النوع على "أصل الحياة" فإنه سيشجع على وضع التناحر على المياه، ضمن أجندة الصراعات السياسية الدولية، على الأقلّ.
بالفعل، كان هذا مضمون ردّ مجلس الأمن على القاهرة فيما يخصّ طلبها بإدانة شروع إثيوبيا في الملء الثاني دون التوافق مع دولتيّ المصبّ: لا علاقة ولا خبرة لنا بالأمر، فالسابقةُ الأبرز على تدخل جهةٍ دولية في مثل هذه الأمور كانت محاولة محكمة العدل الدولية في لاهاي النظر في صراع مشابه بين المجر وسلوڤاكيا، ولم ينجم عن مباشرتها للقضية إلا إدانة الطرفين، اللذين ارتكب كلاهما أخطاء بالفعل، ودفعهما تجاه تعويض بعضهما البعض، وهو ما أدى إلى ترك الصراع مفتوحاً لأكثر من 30 عاماً دون أيّ حلّ، فيما عدا ذلك سيكون أي تحرك عسكريّ من مصر ضدّ إثيوبيا من أجل المياه سابقةً خطيرة في المجتمع الدوليّ، بلغة مجلس الأمن، وهو ما تدركه القاهرة جيداً.
غياب الدعم الدوليِّ وإثارة سؤال الشرعية
في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، ظهر أنّ السياسة التي اتبعها النظام المصريُّ لتقسيم استثماراته، وديونهِ، ونفوذه، على الفاعلين الدوليين والقوى الكبرى في الخارج، لم تُجدِ نفعاً عند المحكّ الرئيس للاستفادة من هذه السياسة، خلال محاولة إدانة إثيوبيا دولياً.
أدار الجميع ظهره للنظام المصريِّ؛ فالولايات المتحدة التي كانت راعيةً لمسار مفاوضات رباعيّ بين الأطراف المعنية إلى جانب البنك الدوليّ إبان حكم ترامب، والذي أسفر عن اتفاق تنصل منه الإثيوبيون، ما أدى إلى فرض عقوبات اقتصادية عليهم، إلى جانب تلويح ترامب علناً بحقّ مصر في "تفجير السدّ"؛ فإنّ نظرتها إلى الأمور اختلفت كثيراً، ولم يشفع للنظام فيها أيُّ دور له في القضية الفلسطينية، حيث هددت الوفد الاستخباريَّ المصريَّ، الذي رأسه عباس كامل إلى واشنطن الشهر الماضي، باتخاذ موقف "غير متسامح" ضدّ أيّ حلّ عسكريٍّ للقضية، ناهيك عن تجاهلها لاحقاً إسنادَ هذا التحذير بأيّ موقف إيجابيّ لصالح مصر في المجلس، بمعنى أنها تضع النظام في الحائط تماماً.
نفس الأمر، بصورة أو بأخرى، ينطبق على باقي حلفاء السيسي الذين خانوهُ، كما يقول النصّ الحواريّ في الفيلم التاريخيّ الشهير، ولم يشفع له عندهم ما منحهم إياه من كعكة الوطن، استثمارياً أو مالياً، روسيا والصين وفرنسا.
في ظلِّ هذا الوضع، فإنَّ أيَّ دور عسكريّ لمصر في ملف سد النهضة، أياً كانت طبيعته، سوف يُقابَل بردّ فعل دوليّ عنيف، سيؤثر سلباً على علاقات هذه الدول الكبرى، التي يسعى النظام منذ وصوله إلى الحكم لكسب ودها بمصر، سيكون موقفاً دولياً أشبه، على الأقلّ، بما جرى ما بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013.
وفي حالة توسع الخطط المطروحة إلى "عمليات عسكرية خارج الحدود"، بدلاً من ضربة جوية مركزة، وهو ما يعني مساحةً زمنية أكبر، وهامشاً أكبر للطوارئ الميدانية، والتفاعل الداخليّ والخارجيّ مع الحدث؛ فإنَّ ذلك قد يؤدي على نحو ما إلى عدم استقرار داخليّ، يسعى النظام إلى تلافيهِ منذ سنوات، في ظلّ مزيد من القيود المتوقعة على المجال العام، الماديّ والافتراضيّ، والتي سيعيد العالم تسليط الضوء عليها من جديد.
ليس من الضروريِّ أن يؤدي الخيار العسكريُّ إلى "التفافٍ شعبيّ حول النظام"، وبالأخصّ إذا لم يكن الخيار العسكريُّ حاسماً من جهة، وإذا لم تكن البيئة الدولية مهيأة لقبول هذا الأمر، دون فتح للملفات القديمة، من جهة أخرى.
يعلم السيسي ذلك، أنَّ الخيار العسكريَّ شاء أم أبى لا بدّ أن يكون مطروحاً، ويعلم أنه إذا لم يكن حاسماً فقد يؤدي إلى نتائج معاكسة داخلياً، فيُفرط في العنف العموميّ في الفترة الأخيرة، من خلال تنفيذ إعداماتٍ أو أحكام جديدة بالإعدامِ، مع حشد المجتمع، قدر الإمكان، ولو ظاهرياً خلفه، ويعلم الخصم نفس الأمر. منذ مدة أثار دينا مفتي، المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، أزمةً مع النظام المصريِّ، بعد حديثه عن مجزرة رابعة وملابسات وفاة الرئيس مرسي في المحكمة، وهي الملفات التي ستُفتحُ، على نحو أوسع بكلّ تأكيد، حال اتخاذ قرار بشنّ ضربة، أو عملية عسكرية ضد إثيوبيا.
لهذا كله، فإنَّ النظام المصريَّ يبدو أقلّ حزماً وحسماً في تعامله مع الجانب الإثيوبيّ، وذلك بالقياس على ملفات خارجية أخرى، أو حتى الملف الداخليّ الذي يتفنن خلاله النظام في البطش بخصومه.. وبكلّ تأكيد لا ينفي ذلك، في نفس الوقت، احتمال اللجوء للخيار العسكريّ، حال عدم التوصل لاتفاقٍ ملزم، واستمرار إثيوبيا في سياستها المنفردة، ولا شكّ أنّ النظام قادرٌ على إيذاء خصمه في هذه المساحة، بغضّ النظر حتى عن سدّ النهضة، وهو ما قد نُفرد له مقالاً مستقلاً في وقت لاحق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.