تواصل السلطات المغربية منذ سنوات التضييق على الخط الصحفي الحر والمستقل، وفرض الحصار على حرية التعبير، وبدأ ذلك بالإجهاز على كل الأقلام الحرة والجرائد المستقلة، وكان آخرها جريدة "أخبار اليوم" والتي تشكل آخر معاقل الصحافة الحرة والمستقلة في المغرب، وذلك بعد اعتقال مدير نشرها الصحفي "توفيق بوعشرين" المحلل المتميز الذي كان يمتاز بافتتاحياته النارية والجريئة، ورئيس تحريرها "سليمان الريسوني" الذي حكم عليه مؤخراً بخمس سنوات سجناً في غيابه وغياب دفاعه، وأيضا في غياب وانعدام أدنى ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة المصادق عليها حقوقيا والمنصوص عليها قانونياً ودستورياً في المغرب.
ويعد سليمان الريسوني الذي جرت محاكمته مؤخراً، من أبرز الصحافيين المغاربة، وهو معروف بقلمه الجريء ومقالاته المنتقدة للسلطة، حيث بدأت قصته منذ اختياره وانحيازه للخط التحريري المستقل، وخوض غمار العمل الصحفي والنشاط الحقوقي، فهو كان يتبنى توجهاً سياسياً يسارياً، فقد كان يشتغل ضمن صفوف حزب "النهج الديمقراطي" (يساري معارض)، إلى جانب عضويته ونشاطه الحقوقي في صفوف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي تعد أكبر منظمة حقوقية في المغرب.
وكانت بدايته في العمل الصحفي مع موقع "نيشان" قبل الانتقال للعمل في جريدة "المساء"، ثم إشرافه على مجلة "أوال"، وتأسيسه لموقع "الأول"، ليلتحق بعدها إلى جريدة "أخبار اليوم" كمستشار للتحليل، تغير ليتولى لاحقاً مهمة رئاسة تحريرها بعد اعتقال مديرها توفيق بوعشرين والحكم عليه ب 15 سنة سجناً، بتهمة أخلاقية. وهي الجريدة التي اشتهر فيها بمقالاته الافتتاحية ذات النبرة النقدية، هذا ما فتح عليه باب تغول ورقابة السلطوية والذي سقط ضحية من ضحاياها.
قبل البدء والشروع في اعتقال الريسوني، كانت هناك نية مبيتة وأعمال تحضيرية مسبقة تسعى للتشهير به، وذلك من خلال تسخير مواقع وجرائد خطها التحريري يتمحور حول التشهير بالصحفيين المستقلين والمعارضين، بل وتقوم بتعيين تاريخ اعتقالهم أسابيع قبل تنفيذه، وهو ما حدث مع الصحفي سليمان الريسوني رئيس تحرير يومية "أخبار اليوم"، إذ نشر أحد المواقع أنه سيعتقل قبل يومين من عيد الأضحى وهو ما كان.
وبعد هذه الحملة الشرسة التي شنت ضد الريسوني من طرف هذه "المواقع الصحفية"، – والتي أوصلت مهنة الصحافة حد النكوص والتدني الأخلاقي الذي لم تعرفه هذه المهنة النبيلة في تاريخ المغرب، كما عرفته في الوقت الراهن- جاء وقت النيل من هذا الصحفي الحر، حيث تم اعتقاله وسط إنزال أمني في محيط بيته، وتم ضرب القانون والمسطرة الجنائية عرض الحائط، واعتقل الريسوني دون أن يتوصل باستدعاء للاستماع إليه من طرف الضابطة القضائية، بما أنه ليس هناك حالة التلبس أو أدلة تدينه، والأنكى من ذلك، قام نفس الموقع الذي هدده بالاعتقال بتصوير لحظة اعتقاله أمام منزله.
وقد كانت التهمة الموجهة للريسوني إثر اعتقاله، هي الاعتداء الجنسي وهتك العرض، والتي وجهها ضده شاب مِثلي، وهذا النوع من المتابعات في حق الصحفيين، ليس بغريب أو جديد، فقد ظل هذا هو السيف المسلط على الأقلام الحرة، وهو ما يسميه المِؤرخ المغربي "المعطي منجيب"، بتهمة الجيم أي الجنس والخاء أي التخابر مع دولة أجنبية، وكلما صدح صوت ينتقد أو يعارض، تطلق السلطوية سهامها لتصفيته وقتله رمزياً وتشويه سمعته قبل أن تجرجره أمام أنظار العالم إلى السجن تارة بمرر حماية حقوق النساء وتارة لحماية البيئة المحافظة للمجتمع، وتارة أخرى بدافع الدفاع عن المثلية التي يجرمها القانون المغربي، ومرة بدعوى الحرص على أموال المنظمات الدولية التي لاتتردد هذه البنية السلطوية في مهاجمتها كلما سنحت لها الفرصة.
لقد تم اعتقال الريسوني لأزيد من سنة بدون محاكمة، هذا ما دفعه ليخوض إضراباً عن الطعام والذي يستمر لحدود الآن، لأزيد من 3 أشهر، هذا ما جعل حالته الصحية حرجة جداً وتزداد سوءاً، فقد نادت منظمة العفو الدولية السلطات المغربية في 28 مايو 2021 بتقديم الرعاية الطبية الكافية للصحفي سليمان الريسوني المضرب عن الطعام، وأن تضع حداً للحبس الانفرادي لهذا الصحفي المحتجز، وهو الأمر الذي تنفيه السلطات المغربية مراراً، كما أنها تنفي حدوث أي تراجع على مستوى الحقوق وحرية التعبير في البلاد. فقد جاء التقرير الأخير "للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"، والذي يحمل عنوان: "المغرب.
خنق الرأي الآخر". لقد أبرز التقرير محاكمة الصحفيين والنشطاء المعارضين بتهم لا تبدو عادلة، حيث يقول التقرير أن "المحاكم المغربية أصدرت أحكاماً قاسية بحق صحفيين ونشطاء معارضين، كان أحدثها الحكم على الصحفي سليمان الريسوني في 9 يوليو/تموز الجاري بالسجن خمس سنوات بزعم تورطه في ارتكاب (اعتداء جنسي)" فقد تزامن هذا التقرير مع محاكمة الريسوني بعد اعتقال طويل دام أزيد من سنة، والتي كانت من أغرب المحاكمات، حيث لم يعطى له حق الدفاع عن نفسه واعتماد قرينة البراءة رغم عدم تواجد دليل واحد يدينه، ورفض استدعاء الشاهدة الوحيدة في القضية، وفي الأخير تمت هذه المحاكمة السوريالية دون الاستماع له وبدون حضور محامييه، وتم إصدار الحكم في غيابه.
وفي المحصلة، نستطيع أن نقول أنّ ما يؤكد هذه الانتهاكات الكبيرة والممارسات التقييدية التي تنتهجها السلطات المغربية ضد الصحفيين ووسائل الإعلام في البلاد، هو المرتبة المتدنية التي يحتلها المغرب في هذا الموضوع، حيث يحتل المرتبة 136 ضمن 180 دولة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" لعام 2021، هذا ما يزيد في انكماش صورة المغرب خارجياً، خصوصاً بعد بيان وزارة الخارجية الأمريكية الذي تناول محاكمة سليمان الريسوني واعتقال عمر الراضي وتراجع المغرب عن الإصلاحات المتعلقة بحقوق الإنسان بما فيها حرية الصحافة.
وفي ظل هذا التجاوز والانتهاك لحرية الصحافة في المغرب والذي لم يكن وليد اللحظة، فالتاريخ المغربي كان دائماً يسجل بكل مرارة وأسف التضييق على الصحافة المستقلة وانتعاش صحافة السلطة، وهذا هو الأمر الخطير لأنه بعد التضييق على الأقلام الحرة والتي تتمتع بمصداقية في عيون المغاربة، أصبح القارئ أو المتلقي المغربي فريسة سهلة للوبيات وأجندات إعلامية تخدم جهات معينة، وأيضا فريسة لكل أنواع الرداءة والانحطاط، وبالتالي يصبح المشهد الإعلامي موبوءاً وغير محصن. هذا ما يجعلنا نطرح تساؤلاً يحمل تحسراً كبيراً على واقع الصحافة المنكوبة في المغرب، ألهذه الدرجة أصبحت الدولة تنتهج أساليب ذنيئة للنيل من معارضيها والأقلام الحرة، أساليب تعبر عن انحراف سياسي فج عن جوهر البناء والانتقال الديمقراطي، وذلك من خلال ضرب الصحافة بالصحافة؟ وهل يمكن بناء ديمقراطية بدون صحافة حرة؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.