الحركات الإسلامية المعاصرة في حاجة ماسة للتطوير، ومواكبة المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي يمر بها العالم، وخصوصاً في المنطقة العربية. ولعل ما طرحه الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني، يرحمه الله، منذ عقود في كتابه "أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة" يفيد في هذا الجانب.
ومع صغر حجم الكتاب إلا أنه كبير في معانيه ومبانيه، حيث حدد فيه بعض النقاط المهمة التي من الممكن أن تفيد الحركات الإسلامية في الوقت الحاضر في تصحيح مسارها، والسير بطريقة منهجية في الدعوة الإسلامية من جانب، والتأثير السياسي من جانب آخر.
وأصل هذا الكتاب تقدّم به المؤلف إلى ندوة "مستجدات الفكر الإسلامي"، التي عُقدت في الكويت عام 1992، وأثارت جدلاً واسعاً، وطورها الكاتب وأضاف عليها حتى خرجت بالشكل الحالي، الذي يحتوي على مباحث ثلاثة؛ الأول: يتناول الخصائص العامة لرسالة الإسلام، من الشمول، والعموم، والغائية، والعالمية، وفي المبحث الثاني: يعالج بعض المعاني الغائبة عن الحركات الإسلامية، مثل: ضرورة الوعي الشامل، وأن عالمية الأزمة تستدعي عالمية الحل، كما تحدث عن فكرة المقاربات والمقارنات بين الفكر الغربي والإسلامي، وأكد على أننا في حاجة إلى المنهجية في معالجة قضايانا، وإشكالية الوصول للسلطة، وهل تعتبر حلاً أم غير ذلك، إلى غير ذلك من القضايا ذات الصلة. ثم تحدث في المبحث الثالث عن المنطق الجديد الذي يجب أن يسود، من حيث الجمع بين القراءات المختلفة، وإعادة صياغة العلوم، وخصوصاً العلوم الإنسانية، والاجتهاد والعمل الجماعي، وضرورة إيجاد البديل العالمي.
والقضية التي تبناها الكتاب هي التأكيد على أن الإسلام في حقيقته أجلّ، وأعظم، وأعلى، وأعز، وأكبر من أي إقليم، أو قوم، أو قضية، أو برنامج، وأن ما يتجلى منه وينعكس على قوم، أو أرض، أو قضايا، أو برامج هو مجرد انعكاس لبعض أنواره، ولشيء من حقائقه التي لا يحيط بها إلا الله تبارك وتعالى، ومع هذا فإن السامع والقارئ للخطاب الإسلامي المعاصر يبدو له أن هذا الخطاب للوهلة الأولى (خطاب جغرافي، أو إقليمي، أو قومي في بعض الأحيان) بالرغم من كل التأكيدات اللفظية على (العالمية والعموم والشمول)، وفي بعض الأحيان يبدو خطاباً قانونياً جل همه ينحصر في بيان سلامة مواد القانون الذي يدعو لتبنيه، وفي أحيان أخرى يبدو الخطاب الإسلامي وكأنه خطاب يعبر عن برنامج سياسي لفئة من الفئات تتقدم به إلى الناخبين ليقبلوه فيمنحوا المتقدمين به الثقة.
وهذا التفاوت في صياغة الخطاب الإسلامي سرعان ما يكشف لمتلقي الخطاب عن التفاوت والاختلاف والاضطراب الشديد لدى حملة هذا الخطاب، ولولا وجود القرآن المجيد نصاً محفوظاً لبلغ التمزق غايات تجعل من عودة الائتلاف إلى هذه الأمة ضرباً من الخيال.
ويشير الكاتب إلى ما أطلق عليه رموز الخطاب الماضويُّ، وهم الذين يكادون يحصرون الإسلام كله في معالجة ما يعتبرونه انحرافاً عن العقيدة كما تصوروها، وليس باعتبارها القاعدة والمنطلق لسائر أفكار وتصورات ومنطلقات الإنسان، وكذلك لا ينظرون إليها باعتبارها رؤية كلية للخالق جل شأنه، وللكون، والإنسان، والحياة بمقتضاها، وينبغي أن تصاغ كل نظم الحياة انطلاقاً منها.
ويرصد كذلك توجهات الخطاب السياسي، ففي بعض صوره الحزبية يكاد يحصر كل مشكلات العالم في عدم وجود خليفة مسلم يطبق الأحكام ويقيم الحدود، وفي صور أخرى فهناك خطاب سياسي يرى أن الإسلام سيتحقق على سبيل التدرج، أو دفعة واحدة بمجرد وصول أصحاب ذلك الخطاب إلى السلطة وتمكنهم منها.
وهناك الخطاب التربوي الذي يكاد يحصر المشاكل في الانحرافات التربوية، والحلول تكمن في معالجة تلك الانحرافات والعناية بالتربية وصفاء النفس وتنقية الوجدان، كما أن هناك الخطاب الدعوي الذي يهمه الانتشار الأفقي والعددي للجماعات؛ باعتبار أن النظر إلى الكثرة يسبق النظر إلى السنن الكونية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية.
ويجزم العلواني أنه لا يتجاهل فضل أي من هذه الخطابات أو أصحابها، كما لا ينكر أثرها في مراحل معينة من مراحل صياغتها والمناداة بها، وبخاصة مرحلة التحرر من سيادة المحتلين واستعادة الهوية، ولكنه يشير إلى أن الخطاب قد يكون فعّالاً في مرحلة ما وليس بالضرورة أن يكون فعّالاً في كل المراحل ولا مع سائر أنواع المخاطبين، وإعادة بناء وتشكيل الخطاب الإسلامي المعاصر المناسب الفعال توجب ملاحظة خصائص الرسالة الخاتمة، واتخاذ هذه الخصائص بمثابة المحددات المنهاجية التي ينبغي الرجوع إليها من حين لآخر للتأكد من أن الخطاب لايزال يمثل لسان صدق لتلك الرسالة والتعبير الفاعل عن أهدافها ومقوماتها، كما أن هذه الخطابات المتعددة لو أدركت ما بينها من أواصر، وسعت إلى إنماء المشتركات، والتنسيق، والتكامل لما كان هناك ما يستدعي الخوف والقلق، ولكن كثيراً ممن يصوغون هذه الخطابات الإسلامية يقدمون خطابهم باعتباره الخطاب الإسلامي العام الشامل، وأحياناً يصوبون خطابهم وحده ويخطئون سائر الخطابات الأخرى.
ومن ثمّ على الحركات الإسلامية التي تتبنى الدعوة إلى الإسلام أن تفهم طبيعة الإسلام كما أرادها الله، وليس كما أرادها هذا الشيخ، أو ذاك، أو تلك الجماعة، أو هذا التيار. فالإسلام أتى لهداية الناس جميعاً، بمفهومه الشامل الجامع، الذي يستوعب حاجات البشر في كل عصر ومصر، وأرسل الله الرسل لهداية البشر إلى الطريق المستقيم، مع مراعاة ظروف الناس.
فالفهم المغلوط لهذا الدين يؤدي إلى كوارث كثيرة، وينفِّر الناس من الالتزام بتعاليمه، كما يسمح لغير المسلمين بتوجيه التهم والافتراءات، دون وجه حق، لأنهم وجدوا بعض الدعاة إلى الإسلام، ينتهجون مناهج قد تخالف ما دعا إليه هذا الدين. وعليه فمهمة الدعاة إلى الله تحبيب الناس في الإسلام، وبيان عظمة الشريعة وخصائصها، كما أرادها الله، دون إفراط أو تفريط، حتى يعود المسلمون الغافلون إلى دينهم عوداً جميلاً، وحتى يُقبل غير المسلمين على الدخول في هذا الدين العظيم.
إن الوعي بالمنهج الإسلامي الصحيح ومتطلباته وآلياته هو أول خطوة في طريق النهوض الحضاري، وما لم يوجد هذا الوعي وتحسم الآليات والخيارات بشكل واضح، فستبقى الحركات الإسلامية تكرر أخطاءها، وتعيد إنتاج التجارب الفاشلة، ولن تخطو خطوة لتتقدم في طريق الإصلاح. فهذا الوعي هو جوهر القضية والمحور الأهم الذي ينبغي أن تركز عليه الحركات الإسلامية، من خلال نقدها لذاتها، ومسيرتها الحركية، والسياسية.
ولا بد من التمييز بين الدعوي والسياسي، والوعي بأن الكفاءات والمؤهلات المطلوبة للسياسي تختلف عن الداعية؛ لأن وسائل السياسي المتمرس، وآلياته، ومناوراته تختلف بشكل كبير عن ممارسات وأدوات الداعية الذي يريد هداية الناس إلى الطريق المستقيم.
وللحديث بقية..
الموقع الالكتروني: https://www.gamalnassar.com/
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.