شارع ترابي –مُعبدٌ سابقاً- تتراكم أكوام القمامة على جوانبه جاذبة نحوها أسراب الذباب والفئران، تعصف فيه رياح السموم المحملة بالغبار والأتربة خلال الظهيرة الملتهبة بغياب الكهرباء والماء وطفح مياه المجاري، يسير خلاله المارة دون اكتراث للروائح الكريهة والمناظر المقززة ولحر الشمس اللاهب وحرارة البيوت التي أضحت أفراناً، أنظارهم شاخصة إلى المجهول، غالبيتهم لم يعد يكترث لهندامه أو قيافته أو الكلمات البذيئة التي يسمعها والألفاظ الخادشة للحياء التي يلقيها هو بلا خجلٍ من حوله، يمضون بسيرهم وسط ضجيج أبواق السيارات والباصات والدراجات التي تتصارع فيما بينها للهروب من حفر ذلك الشارع ومطباته.
المشهد السابق ليس لأحد أفلام الموتى الأحياء (الزومبي)، بل هو جزء من المشهد اليومي المتكرر والمعلوم والمألوف في حياة العراقيين المأساوية، والتي يشكل غياب الخدمات والفساد رأس هرمها الظاهر، بينما يشكل التفكك الاجتماعي والأسري واضمحلال القيم والأخلاق وانعدام روح المواطنة قاعدتها الكبيرة والمخفية عن المراقب البعيد: فساد بلا حدود، تبخر الاحترام والتراحم، عنف وقتل وانتقام وثأر، سخرية من المبادئ والقيم، عشائرية وطائفية معتدية، تناشز اجتماعي كبير، تدين ظاهري، عمالة متفاخرة للأجنبي، وغيرها من مظاهر التفسخ التي تنتشر في المجتمع العراقي كانتشار النار في الهشيم.
جذور الأخلاق والقيم.. تقتلعها معاول الاستبداد
توجه أصابع الاتهام غالباً في مسؤولية ما وصل إليه المجتمع العراقي من انهيار نحو الطبقة السياسية الحاكمة حالياً، ولكن: ما الذي أوصل تلك الطبقة لهذا المستوى من الفساد وموت الضمائر؟
للإنصاف أكثر وللموضوعية لا بد أن نعود بالزمن قليلاً لنراقب كيفية انهيار المنظومة الأخلاقية والقيمية والانتماء الوطني داخل المجتمع العراقي، كما يقول د. علي الوردي: "عند دراستي للمجتمع العراقي أدركت أني لا أستطيع أن أفهم المجتمع في وضعه الراهن، ما لم أفهم الأحداث التي مرّت به في العهود الماضية، فكل حدث من تلك الأحداث لا بد أن يكون له شيء من التأثير قليلاً أو كثيراً في سلوك الناس حالياً وفي تفكيرهم"، فحين نلتفت إلى ماضي العراق القريب نرى:
– تنازع الصفويين والعثمانيين على حكم أرض السواد لقرون طويلة، لم يمتلك سكان البلد الأصليون خلالها سلطة القرار السياسي والسيادة على بلدهم، وكان اهتمام الولاة ينصبّ على جمع الجباية لصالح ملوكهم، أو تجنيد الرجال والشباب ليكونوا وقود حروب لا ناقة للعراقيين فيها ولا جمل، حتى قيل في المثل المشهور "بين العجم والروم بلوه ابتلينا"، استوطن غالبية السكان في الأرياف والبادية لممارسة الرعي والزراعة تحت سلطة شيوخ العشائر والقبائل الذين كانوا يتنازعون بينهم لبسط نفوذهم على الأراضي والفلاحين وجباية الأموال لصالحهم ولصالح الولاة، بينما كان سكان المدن يرزحون تحت سيطرة جند الوالي نهاراً وشقاوات المحلات وعصاباتهم ليلاً، فانحاز الأهالي للأقوى خشية بطشه وظلمه على حساب حقوقهم وممتلكاتهم، وتجرعوا كؤوس الجهل والفقر التي تفشّت في البلاد بسبب سياسة الولاة وزعماء القرى والمدن الظالمة.
– وبعد الاحتلال الإنجليزي للعراق وتأسيسهم للدولة العراقية عام 1920 حاول المحتلون الجدد تصدير منظومتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى العراق، عبر تنصيب ملك (حجازي) موالٍ لحكومة صاحب الجلالة البريطاني؛ ولكن سرعان ما أعلن فيصل الأول صدمته وعجزه بقوله: "إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت"، فلم يتجرع العراقيون حقنة المدنية الغربية التي زرعتها بريطانيا فيهم بسهولة، وبقيت أعراف التسلط والاستبداد سائدة وفي نزاع مستمر.
– وما إن بدأت ملامح بناء الدولة والعمران والمدنية والتطور تظهر على ملامح البلد حتى انقضّ عليها العسكر، الذين أوجدهم المحتلون الجدد، معلنين فصلاً دموياً جديداً في حياة العراقيين، افتتحوه بذبح سلالة الملك الحجازي، وظهر الاستبداد بشكله القديم الجديد عبر حكم المستبد الغالب، وطوال عقد من الزمن (1958-1968) ذاق العراقيون معاناة الصراع والتصفيات والإقصاء السياسي، التي حمل لواءها الشيوعيون تارة والقوميون تارة، وتسلم رايتها لاحقاً البعثيون، ليعلنوا انفرادهم بالسلطة لا شريك لهم فيها!!
– وبذلك انتهى فصل العسكر لينتقل العراقيون إلى فصلٍ دموي أطول وأمرّ وأعنف، لم يعرفه أجدادهم من قبل، قادَه الحزبيون البعثيون، وانفرد بكتابة أوراقه لاحقاً زعيمه الأوحد (صدام حسين)، وأصبح الرعب سيد الساحة على حد سواء بين الموالي للسلطة والمعادي لها والساكت عنها، فأبيدت قرى وبيوت وأسرٌ بنسائها وأطفالها لأنها لم تعلن الولاء للقائد الضرورة، وهلك مئات ألوف الشباب والرجال في حروب اختار المهيب الركن أن يحرقهم فيها ليبرز شجاعته وإقدامه، واستمر الأمر على هذا الحال إلى حين سقوط تمثاله، ليبدأ الحزبيون المعارضون لصدام فصلاً دموياً آخر للانتقام من عهده، بعدما مَسخ ومَسح أخلاقهم وقيمهم.
كان للاستبداد السياسي -باختلاف درجات جبروته- الدور الأكبر في تغيير سلوكيات وقيم وأخلاق معظم العراقيين نحو الأسوأ، وتفنّن المستبدون في استخدام الوسائل والطرق لإخضاع الأفراد وقهرهم وإهانتهم وابتزازهم واغتصابهم وقتلهم، ما ولّد مشاعر وقيماً سلبية عكسية أجهضت محاولات المصلحين لبناء مجتمع متماسك ودولة مدنية حضارية.
وعظ وإصلاح وتدين مثالي.. يحتاج إلى استغفار
طوال الحقب الماضية اتسعت الهوة بين ما يتلقاه أفراد المجتمع من المواعظ الدينية والإرشادات والمثاليات على لسان دُعاة الوطنية ورجال دين وخطباء ومعممين، وبين الواقع الذي يعيشه الناس من قهر وظلم واستعباد وفقر، سكت عنه غالبية أولئك الوعاظ، فافتقد المتلقون تدريجياً القدوات والرموز والمرجعيات المؤثرة، خاصة مع تلوث كثير منهم بمال السلطة الفاسدة أو ممارسات الاستبداد الديني.
وفرغ معظم التدين في العراق من محتواه القيمي والأخلاقي والفكري، ليتحول إلى شعائر وطقوس وشعارات يحرص على ترويجها واستخدامها نفعيون وصوليون طائفيون، فزاد الطين بلة بابتعاد كثير من الناس عن الدين والقيم والأخلاق التي يدعو لها، لمقارنتهم إياها مع أفعال المنحرفين وممارساتهم المسيئة، وانعزل كثير من المصلحين والصالحين عن أداء دورهم الإصلاحي في المجتمع لرجاحة كفة الأدعياء عليهم وغلبتهم وعلو صوتهم وسيطرتهم على الساحة، بممارسات تجذب حولهم كثيراً من الأتباع الجهلة.
نفق مضيء وسط العتمة
أضحت حالة الإحباط واليأس من جدوى محاولات الإصلاح الصفة الغالبة لدى أكثر العراقيين، بسبب ما ذكرناه من تدهور وانهيار أخلاقي وقيمي، والغالبية يتساءلون عن الحل وإمكانية التغيير.
لن تقتضي أي محاولة إصلاحية استجابة جميع فئات الشعب لها، فسيعاديها ويتصدى لها من تضررت مصالحهم ومكاسبهم منها، وديدن المصلحين والمجددين -على مر العصور- رفع أصواتهم عالياً، وتجنب الوقوع في الظلم ومواجهة الطغاة والمفسدين والأدعياء، ودعوة الناس إلى الدخول في النفق المضيء بالمبادئ والقيم الحميدة وسط عتمة الفساد والاستبداد، والأمل معقود بهؤلاء رغم قلتهم في المجتمع وضعف صوتهم وإمكاناتهم، وما شهداء انتفاضة تشرين عنا ببعيد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.