تركت نتائج الانتخابات التشريعية الجزائرية في 12 يونيو/حزيران المحللين يواجهون معضلة كسر الجمود السياسي ومدى تأثيره على مسار التغيير السلمي؛ حيث جرت تلك الانتخابات المبكرة كنتيجة لعام ونصف من الإصلاحات السياسية والمؤسسية التي قادها الرئيس عبد المجيد تبون، الرئيس الثامن للجزائر منذ استقلال البلاد في عام 1962.
تم انتخاب الرئيس عبدالمجيد تبون في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 وبعدها تم استفتاء على الدستور الجديد في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في ظل نسبة امتناع انتخابي مرتفعة جداً. وهي الشبح الذي بات يطارد السياسيين الجزائريين وعلى رأسهم إدارة الرئيس عبدالمجيد تبون. المفارقة تكمن في أن تلك الانتخابات لم تكن لتعقد لولا الحراك الشعبي السلمي ضد منظومة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، الذي حكم البلاد لمدة عقدين، سبقها عقد من العنف السياسي في التسعينات يسميه الجزائريون: "العشرية السوداء". دفعت العقود الثلاثة من الدراما السياسية الناخب الجزائري إلى ترك السياسة للسياسيين والبحث عن حياة أفضل في الخارج.
مصداقية الانتخابات
يقودنا هذا إلى فهم أفضل للعملية السياسية الحالية وحجة الدور الذي لعبه الجيش في إدارة الأزمة المؤسسية خلال الأشهر التسعة لحراك 2019، وتداعياته السياسية والمؤسسية المباشرة التي أدت إلى سقوط الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. وفقاً لهذه الأطروحة، فإن الانتخابات التشريعية المبكرة هي جزء من خارطة الطريق التي رسمها رئيس الأركان العسكرية الراحل، الفريق أحمد قايد صالح، في أعقاب "استقالة" الرئيس السابق في 2 أبريل/نيسان 2019.
قبل 3 عقود، عقدت انتخابات ديسمبر/كانون الأول 1991 بموجب دستور عام 1989 حيث شاركت آنذاك جميع الأحزاب السياسية وصوتت بحرية وفقاً لقوائمها الحزبية، مع استعداد لرؤية التغيير الذي يريده الشعب وليس النظام. هذا على عكس انتخابات 12 يونيو/حزيران 2021 التي بدا فيها الانقسام عميقاً في أوساط الناخبين ليس فقط من الناحية الأيديولوجية بل حتى في البعد السياسي والاجتماعي لقادة الأحزاب والنخب من جهة والبعد الجهوي من جهة أخرى، مما أدى بالناخبين إلى التيه والضياع في مسار إصلاح أراده النظام بعد حراك 2019.
هذا ما سمح لحزب "جبهة التحرير الوطني" بالفوز بـ98 مقعداً في المجلس التشريعي الجديد. بينما جاءت قائمة المستقلين في المرتبة الثانية، وتتبعها الأحزاب الأخرى مثل "حمس" وحزب "التجمع الديمقراطي" و"المستقبل" وحزب "البناء" (غريم حمس). مما أعاد لذاكرة الناخب الجزائري أيام منظومة بوتفليقة وسنوات حكم الحزب الواحد والوحيد لحزب "جبهة التحرير الوطني"؛ إذ إن هناك تحالفاً رئاسياً جديداً يلوح في الأفق، ومن ثم فإن المقاطعين والمواطنين عموماً قرأوا هذا الطرح على أنه استمرار للنظام القديم بوسائل أخرى، وليس إرساء لقواعد الجزائر "الجديدة" التي يحاول الرئيس عبد المجيد تبون تجسيدها منذ توليه الحكم.
صوت الناخب أمام الأمر الواقع
عودة السيد رمطان لعمامرة إلى وزارة الخارجية كرئيس للدبلوماسية الجزائرية، وهو المنصب الذي شغله بين عامي 2013-2017 في عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة أثارت ردود فعل قوية على منصات التواصل الاجتماعي. تعيين سيد رمطان لعمامرة في حكومة رئيس الوزراء أيمن بن عبدالرحمن أثار قلقاً مشروعاً بين المشككين في إدارة الرئيس عبدالمجيد تبون وحتمية الأمر الواقع الذي يريده النظام. مما عززّ موقف غالبية المرتبّين من معادلة التغيير والتداول السلمي على السلطة.
يبقى وزن وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، رمطان لعمامرة، الوزير الجديد/القديم ضارباً في عمق النظام الجزائري وأجنحته المتصارعة على السلطة منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي. ومع اعتبار أن الجنرالات الحاليين يختلفون عن التيار الاستئصالي والعلماني المتطرف الذي كان موجوداً آنذاك، يبدو أنهم تعلموا من الخطأ السابق حينما انقلبوا على صندوق الانتخابات التشريعية نهاية 1991.
ومن المعروف، أنّ أجنحة داخل النظام الجزائري تتصارع، وهي ثلاث كتل؛ كتلة المخابرات (DRS) سابقاً التي كان يرأسها الجنرال توفيق مدين، كتلة الرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة، والمنعوتة من قبل الأوساط الشعبية في الجزائر بـ"العصابة"، التي تم القضاء عليها من طرف الكتلتين الغريمتين في النظام وهي كتلة الجيش بقيادة قائد الأركان الفريق سعيد شنڤريحة التي تعدُّ القوة الحاسمة في الصراعات الداخلية بغية استمرار واستقرار فعاليات النظام مع المراعاة الدقيقة لما بقي من جماعة الجنرال توفيق في الإدارة المدنية وإدارة الأعمال الاقتصادية في قطاعه الخاص.
في هذا السياق السياسي الجديد، ستظهر معادلة مثيرة للاهتمام بين حزب "جبهة التحرير الوطني" وامتيازها من ناحية التوازن الجهوي وامتداد الحزب في عمق المجتمع الجزائري، والقوائم المستقلة التي احتلت المرتبة الثانية في السباق الانتخابي التي مثّلت جهات حساسة في الوطن سواء كانت عرقياً أو مذهبياً. انتخاب سيد ابراهيم بوغالي رئيساً للمجلس الشعبي الوطني التاسع للجمهورية الجزائرية، هو نائب عن محافظة غرداية (جنوب)، التي يقطنها الميزابيون الأمازيغ (الإباضيون). كما تعد هذه المرة الأولى التي تتولى فيها شخصية مستقلة رئاسة المجلس منذ تأسيسه عام 1976 ويعتبر رئيس المجلس الشعبي الوطني حسب الدستور بمثابة الرجل الثالث في الدولة بعد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الأمة – الغرفة الثانية.
التوازن الجهوي وميزان قوى الجديد
التوازن الجهوي هو وسيلة لفك إشكالية صراع الأجنحة وبروز عامل المقاطعة والعزوف الانتخابي. لذا بدا انتخاب السيد إبراهيم بوغالي محاولة لتحقيق توازن جهوي ومنطقي بين المناطق عبر كامل التراب الوطني، حيث يعتبر أحد الأهداف الأساسية لسياسة الرئيس عبدالمجيد تبون، والذي جاء بسياسة متكاملة لجلب وترقية القوات الفاعلة في كل منطقة باختلاف نسيجها الاجتماعي والثقافي وفق نظام تدرجي يعتمد على الإدماج والاستثمار.
ترجع معضلة الجهوية في الجزائر إلى ما قبل مرحلة الاستقلال، حيث قضايا حساسة مثل التوازن الجهوي والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات. لكن ورغم مرور ما يقارب من ستة عقود ونصف على الاستقلال لوحظ استمرار الفروقات الكبيرة في المجال الوطني. ومن أبرز أسباب الفشل في تحقيق تنمية متوازنة تحد من هذه الاختلالات والفوارق التنموية، المركزية الشديدة التي تميز هيكل الدولة الجزائرية، والغياب العملي للمستوى الجهوي، أي المستوى الوسطي بين الدولة والولاية في التنظيم الترابي للبلاد، في الوقت الذي نجد الكثير من الدول المتقدمة والنامية أخذت بالنظام الجهوي وحققت نتائج كبيرة على صعيد التنمية المتوازنة.
وفي هذا الإطار شدّد الرئيس عبدالمجيد تبون على التطوير والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في كل جهات الوطن منها مشروع الرئيس ودعوته الرئيس عبدالمجيد تبون في مجلس الوزراء إلى إحصاء "مناطق الظل" في الجزائر العميقة لمعرفة الفقيرة منها وتلك المُعدمة تنموياً. المشروع هو محاولة للقضاء على سياسات التهميش خاصة في مناطق الجنوب، الغريب أن أبناء تلك المناطق يمثلون خزاناً انتخابياً غنياً لأحزاب النظام ولا سيما حزب "جبهة التحرير الوطني"، حيث فاقت نسبة المشاركة في الاستحقاقات الثلاثة (الرئاسية، واستفتاء الدستور والانتخابات التشريعية الأخيرة) نسبة 60% التي أخذ الرئيس عبدالمجيد تبون نسبة عالية منها في انتخابات 2019، على عكس منطقة القبائل التي كانت نسبة المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية الثلاث فيها ضعيفة جداً. رغم الاندماج السياسي والمالي لأبناء تلك المنطقة في فروع منظومات السلطة المختلفة.
لكن ظاهرة الجهوية والتمثيل المتوازن السياسي في الجزائر تصطدم بظاهرة اجتماعية وهي ما تعرف في الجزائر بـ"الحرڤة" (العبور بشكل غير قانوني إلى الشواطئ الأوروبية) عبر قوارب الموت. باتت تلك الظاهرة تطارد السياسيين في الجزائر منذ عقدين، على عكس جهوية التمثيل السياسي والتنمية الاقتصادية، ظاهرة الهجرة غير الشرعية أصبحت ظاهرة وطنية بل حتى إقليمية تمس كل شباب أبناء منطقة الساحل والدول المغاربية. بالتالي يجب على السياسيين معالجة هذه القضية بجدية لأنها هي مسألة نمو وطني وازدهار اقتصادي وإلى حد ما مسألة أمن قومي. لذا كانت رسالة الانتخابات التشريعية الأخيرة إلى النواب الجدد: عليكم أن تتعافوا من حالة الإنكار السياسي.
يجب أن ينظر أعضاء البرلمان الجدد في كيفية تحديث النظام الانتخابي، مثل التصويت بالبريد أو حتى التصويت الإلكتروني – في حين أن غالبية الشباب من كل جهات وولايات الوطن متصلون بهواتفهم الذكية.
الديمقراطية لا تعني شيئاً في غياب سياسة جهوية متوازنة ونشطة متبوعة بسياسات عامة عادلة لسكان المنطقة في اختيار ممثليهم والشعور بالفخر بأبنائهم. في نهاية المطاف لا الديمقراطية ولا تعيينات الرئيس لوزراء في مناصب تسيير ليس لها قيمة سياسية سوى رمزيتها الديموغرافية. يبقى متغيّر الجهوية لا يهم الجزائريين وهم الذين عرفوا لعبة تغيير الأدوار في بيت النظام في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بنعتهم لنظامي الرئيس بومدين والشاذلي في العهدة الأولى بـ"BTS" يقصدون تعيين معظم الوزراء وقادة الجيش من الولايات الشرقية: باتنة، تبعة، سوق أهراس، كون الرئيس هواري بومدين والرئيس الشاذلي بن جديد من ولايتي ڤالمة وعنابة. ثم عرف الجزائريون في العهدتين الأولى والثانية للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة بـ"TNT" حيث كان معظم الوزراء والمسؤولين الأمنيين السامين من حاشية الرئيس من الولايات الغربية: تيهرت، ناد روما، تلمسان نسبة إلى الولايات الغربية كون الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة من ولاية تلمسان.
صحيح أن الرئيس عبدالمجيد تبون الرئيس الجزائري الثالث من المنطقة الغربية منذ الاستقلال والوزير الأول الثاني من مواليد منطقة العاصمة (الجزائر) لذا يرى أبناء منطقة الوسط أنفسهم أول ضحايا الأضرار الجانبية لسياسة عدم التوازن الجهوي للتمثيل السياسي والإداري العادل في سلك الدولة. في حين أن التمثيل السياسي الجهوي بالنسبة للنظام يبقى عملية ولاء وحسابات سياسية تحكمها العلاقات الاجتماعية العميقة كالقبيلة والأعراش، وهذا ما زال سائداً في ذهنية الناخب الجزائري الذي يختار ممثليه حسب انتمائهم الجهوي وليس حسب كفاءاتهم ونزاهتهم، يبقى التوازن الجهوي هو السلاح الرادع للجهوية الضيقة لترسيخ الديمقراطية التمثيلية المتقدمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.