القضية الفلسطينية.. نقاط ضعف الكيان الداخلية

عربي بوست
تم النشر: 2021/07/13 الساعة 13:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/13 الساعة 13:46 بتوقيت غرينتش
القدس العربي

لطالما روّج الكثير من الإعلام الغربي لصورة جميلة للكيان الصهيوني، باعتباره دولة يطيب فيها العيش، وحققت مستوى عالياً من التقدم على جميع المستويات. هذه الصورة المبالغ في توصيفها تعطي الانطباع المغلوط بأن يكون شعب الكيان في تناغم وانسجام، وأن تكون السلطة نفسها على نفس المسافة من كل مكونات الشعب الذي تسوسه، لكن الواقع يعطي معطيات أخرى تفند هذه المزاعم.

1) غياب مكونات القومية 

إن توصيف الكيان الصهيوني بالهجين ليس ادعاء، بل هو توصيف موضوعي قائم على أسس وثوابت، يمثل المجتمع الصهيوني وضعية خاصة من غياب التجانس. هذا التجانس يتمثل في الاتفاق في الدين (وحتى التماثل في المذهب أو الشريعة) وفي الاشتراك في التاريخ وما يمكن أن يفرزه من عناصر حضارية ومكونات ثقافية ومنها اللغة، لكن المجتمع الصهيوني يتكون من 90 أقلية عرقية، توافدت على فلسطين في إطار الهجرات المتتالية، أتوا من 210 دول ويتحدثون 80 لغة. 

التحقت بفلسطين مجموعات مشتتة من كل أطراف العالم في إطار حلم "لم الشتات" الذي سوق لقيام هذا الكيان. إن التجانس بين مكونات الشعب هو عامل محدد في توحده، صحيح أن مفهوم الهوية هو مفهوم محدود علمياً باعتبار الحركة التاريخية المتواصلة (تغير مناطق الانتماء من جيل إلى آخر، الاحتكاك بحضارات أخرى. (لكن حتى مع تنسيب هذا المفهوم وإنزاله في إطار تاريخي محدد يعاني الكيان من تنافر اجتماعي كبير، يتجاوز البلدان التي تحتوي على حركات انفصالية، إذا غابت إحدى المكونات الرئيسية للهوية الجمعية، يقوم سعي حثيث إلى التركيز على إحدى المكونات الأخرى في محاولة لسد فراغ غياب المكون الأول، غير أن التاريخ الإنساني لا ينفك يثبت ما للدين من أهمية جوهرية قد تفوق أهمية بقية مكونات الهوية، ليس في ذلك إقرار بصحة أن يتصدر الدين أولوية معايير مكونات الوطنية)، إذ إنه عقيدة تترجمها طقوس عبادة وفي أحسن الأحوال ينعكس ذلك على السلوكيات الفردية، بل هذا اعتراف بما للنظام من وعي بأهمية الجانب الروحاني لدى كل الشعوب، وحجم تأثير البعد الميتافيزيقي على مختلف أبعاد حياتها، وبالتالي يستعمل كل ما يمكنه لتعزيز هذا الجانب، وبلورة نوع من الوحدة تضمّن استقراره، فالتماثل الهووي يمثل حالة من التماثل الجماعي في الاحتياجات، ويخلق حالة من الاستقرار الاجتماعي، وهذا يسهل دور السلطة في تحقيق حاجيات الشعب، وتنتفع الطبقة الحاكمة بما يحيط بها من حزام داعم من الشرعية، وتستطيع احتواء حالات العصيان، هي وضعيات مريحة للأنظمة الديمقراطية التقدمية، وخاصة الأنظمة الكليانية.

بالنسبة للكيان الصهيوني يؤجل المسؤولون في الكيان الخوض في موضوع الهوية، لحساسية الموضوع ولسهولة استمداد الشرعية من المؤسسة الدينية. إن البروباغندا القائمة على الدين في الكيان لحقتها سياسة أخرى، لصهر هذه الشروخ وسد الشقوق في الموروثات الحضارية المختلفة، ومنها سياسة عسكرة المجتمع، إن سياسة عسكرة المجتمع هي من ضمن محاولات توحيد الهوية الإسرائيلية، في دولة الكيان يجب إلزاماً على كل شاب وشابة الالتحاق بالخدمة العسكرية بعد الدراسة، ويشكلون فيما بعد ما يسمى بجيش الاحتياط، إضافة إلى وجود الجيش الرسمي للكيان، يبقى هؤلاء على ذمة الدولة تحسباً لأي هجوم "خيالي" على الدولة، في إطار التبرير لسياستها الاستيطانية المجرمة، وقد يكون في ذلك تعبير عن وعي قادة هذا الكيان بضعف موقفهم وضرورة الاحتماء بقوة السلاح والعنف. 

عند الانتداب في الوظائف، خاصة الحكومية منها، يجب إظهار شهادة الخدمة العسكرية… هذه السياسة القائمة على دمج الأطفال منذ الصغر وتجذير فكرة وجود عدو، وإقصاء فلسطينيي الداخل المحتل، وعلى ترسيخ مشاعر العدوانية، تجد شقاً رافضاً لها من ضمن المواطنين الحاملين للجنسية الإسرائيلية نفسها من شباب ومن نخبة مثقفة تقدمية، وحتى ممن تولوا مناصب في جهاز دولة الكيان. تجد النخبة صعوبة في تعريف الهوية الإسرائيلية.

 في علم الديمغرافية الصهيونية هناك مفهوم لليهودي بشكل ما، هذا التعريف الغريب هو عرقي علماني وديني في نفس الوقت، لكن في العقيدة اليهودية يعرف اليهودي وبشكل واضح على أنه من وُلد لأم يهودية ويؤمن باليهودية، هذا التعريف تبنته المؤسسة الحاخامية، هذه الضبابية في المعنى وهذا العجز عن التعريف يؤكدان هشاشة ثوابت حجج المستوطنين في تبرير تملّك أراضي غيرهم استناداً إلى حجة القومية.

 هذا التنافر الصارخ بين مكونات الشعب الصهيوني وعجز النخبة عن تحديد مفهوم واضح للهوية الإسرائيلية يبين أصلاً عدم جواز الحديث عن هوية صهيونية من ناحية علمية. إن يهود الكيان يفتقرون إلى الروابط التي يمكن أن تجعل منهم شعباً لتسقط مقولة: أرض بدون شعب لشعب بدون أرض. (1) 

2) غياب ديمقراطية الدولة 

لقد اعتمدت الحركة الصهيونية لإيجاد شرعيتها على عدد من السياسيين والمنظرين الذين تمكنوا من الاستيلاء على الأرض العربية عبر كل السبل والطرق اللاشرعية على امتداد فترة من الزمن، بعد فترة من الوعود والاتفاقيات والأساليب الملتوية، وفي توظيف حرفي لسياسة المراحل، تمكنت الصهيونية من الاستيلاء على أرض مأهولة وإعطائها لمن لا حق له فيها، إذن فإن مقومات المدنية وركائز الديمقراطية التي من أجل افتكاكها تحارب الشعوب عادة أنظمتها، في تطبيق لنظريات نخبها التي تقودها، لا تجد لها جذوراً في تاريخ الدولة الصهيونية. 

من ضمن الاتفاقيات البانية لدولة الصهاينة اتفاقية ستايتسكيو، أي اتفاقية الأمر الواقع، الداعية لمشروع بناء دولة يتعايش فيها اليهود مع غيرهم، إذ إن هرتزل لم ينظر لدولة يهودية، بل نظر لدولة اليهود، أي دولة مدنية علمانية تضمن تعايش اليهود وغير اليهود ومنهم الملحدون، وقد قبل الطرفان (اليهود المتدينون واليهود العلمانيون) بهذا التوافق في حركة تكتيك سياسي، لقناعتهما حينها بأن الطرف الآخر زائل لا محالة، لكن مر الزمن وتنامت ديمغرافية الطرفين ومعها تناقضاتهما. 

وتبين أن هذا التوافق لا يمكن أن يكون إلا مؤقتاً، إذ إن الدولة بمؤسساتها وخدماتها لا تقف على نفس المسافة من جميع الأطراف. إلى الآن لا تمتلك دولة الكيان دستوراً، لكن تعتمد قوانينها على تشريعات من التوراة يحددها الحاخامات، فلا الحاخامات يعترفون بالقوانين الوضعية، ولا السلطة تريد أن تتقيد بحدود جغرافية، لأن هذه المسألة مفتوحة إقليمياً. إذن فمن المتوقع أن تميل كفة امتيازات الدولة لصالح من. 

يبلغ عدد اليهود الأصوليين، أي الحراديم (2) في إسرائيل مليوناً من مجموع 8 ملايين. وهم معفيون من الخدمة العسكرية منذ نشأة الكيان بقرار من بن غوريون (زعيم صهيوني، من مؤسسي دولة الكيان، وأول رئيس وزراء) ويعيشون من أموال الدولة وفقاً لما منحه لهم من امتيازات… ينتهج جميعهم نمط حياة خاصاً جداً، تغلب فيه فلسفة التحريم على فلسفة الحياة. هؤلاء الأصوليون يتفرعون أيضاً إلى من يساندون قيام دولة الكيان (تغير موقفهم تاريخياً من الرفض إلى القبول والمشاركة في السلطة) ومن يرفضون قطعاً قيام دولة قومية يهودية. ويستند هؤلاء إلى معتقد من التوراة، يقول إنه على يهود العالم البقاء في حالة عقاب رباني وشتات إلى حين قدوم المسيح اليهودي، وإن أي محاولة إعادة إحياء وطن لليهود ولم الشتات هو خطيئة. وباعتبار اختلاف مواقفهم من السلطة تختلف طريقة تعامل هذه الأخيرة معهم من سياسة إلى نقيضتها تماماً.

وما يفسر حرص النظام على إقامة وفاق معهم هو وزنهم في المعادلة السياسية، حيث كون جزء منهم (وهو الذي يعتقد جواز قيام دولة قومية يهودية) أحزاباً سياسية مختلفة (مثل حزب المفدال وهو حزب ديني متطرف كان يسمى الحزب الوطني الديني، يعد رافداً من روافد الحركة الصهيونية)، جعلت هذه الأحزاب دورهم حاسماً في تحديد الخريطة السياسية لأي حكومة، ومنهما تحقيق السلم الضروري للشرعية: هم خزان مغرٍ من الأصوات الانتخابية للسياسيين الذين يقدمون لهم التنازل تلو الآخر. هذه الدولة داخل الدولة التي تعلي تعاليم الشريعة على القوانين الوضعية هي أقرب ما يكون إلى المرض الذي ينخر الكيان من الداخل، تتوزع عندهم الأدوار الاجتماعية بطريقة خاصة جداً في رجعيتها، فالرجال يكرّسون كل وقتهم لأداء الفرائض الدينية، ولتدارُس النصوص القرآنية، والنساء يشتغلن ليستطعن إعالة عائلاتهن الكبيرة عدداً. وقد أثرت قوانينهم على حياة الأغلبية العلمانية، وأفرزت وضعية تناقض آخذة في التفاقم. مثلاً لا تعترف الدولة بالزواج المدني، بل يجب أن يتم عبر المؤسسة الدينية، كما يمنع الزواج بغير اليهود. 

أدى ذلك إلى وجود ربع مليون من سكان الكيان المتزوجين خلافاً للصيغ التي تعترف بها الدولة، وإلى وجود عنصرية في التعامل ضد المواطنين غير مكتملي اليهودية، بل حتى في حقهم في التمتع بقبور مثل غيرهم، من حيث علامات تعريف القبور ومكان الدفن. ولفرض تعاليم الدين اليهودي توظف الدولة الآلاف من الناس الذين يتقاضون أجوراً، منها المحاكم الدينية التي تسيطر على حياة اليهود.

هذه المعطيات تطيح ببروباغندا نظام الكيان، المروجة لصورة الدولة المدنية العلمانية التي تعترف بحرية الضمير وبفصل الدين عن الدولة، في مزايدة على كل أنظمة بلدان المنطقة. التناقض بين المعلن والوضعية الحقيقية تشهد عليه الإعداد المتزايدة من الأشخاص الذين يتخلون سنوياً عن الأصولية الدينية (يخرج كل سنة 1300 من الأصولية والتشدد) ويبدأون حياةً مختلفة في كل أبعادها.

3) أصوات ناقدة من الداخل

من داخل المجتمع اليهودي العالمي، كانت هناك عديد من الحركات المعارضة للتهجير إلى فلسطين، كما كان هنالك تيار يهودي يساري واسع يعارض قيام وطن قومي لليهود، وليست الصهيونية سوى واحدة من هذه الحركات، لكن مجيء هتلر والمحرقة كانا السبب الذي غير قناعة الكثير من اليهود. (3) 

 يوجد في القدس فقط 60 ألف يهودي متدين معارض لوجود دولة الكيان، كما عارض أجدادهم قيام الدولة. (4) أكثر الحركات تشدداً في هذا التيار يطلقون على أنفسهم تسمية ناطوري كارتا، يؤوي حي ميا شريم 15 ألفاً منهم، وناطوري كارتا تعني حراس المدينة في اللغة الآرامية، حراسة المدينة تعني منع دخول الفكر الصهيوني لمدينة القدس ولبلاد فلسطين. 

هؤلاء ذوو أصول أوروبية، إذ نزح أجدادهم من اليهود الأرثوذوكس إلى فلسطين هرباً من المذابح في بلدانهم الأصلية، تأسست هذه الحركة قبل قيام الدولة الصهيونية سنة 1938 في القدس، بعدما تبين لهم مشروع الصهاينة في بناء وطن بشكل قسري في أرض تعود لشعب آخر، بل وحتى قبل ذلك في القرن 19 قاوم كبار اليهود في جميع أنحاء العالم فكرة الصحفي ثيودور هرتزل، الداعية إلى إنشاء وطن قومي لليهود، ورَفَض حاخامات الإصلاح الأمريكيون، المجتمعون في بيتسبرغ الأمريكية، القومية من أي نوع، وأعلنوا "إننا لا نعتبر أنفسنا أمة؛ بل مجتمعاً دينياً، وبالتالي لا نتوقع عودة إلى فلسطين، ولا استعادة أي من القوانين المتعلقة بالدولة اليهودية". ومنهم كبير حاخامات فيينا موريتز غودمان، الذي استند أيضاً إلى تعاليم الدين اليهودي، الذي يقر بعدم أحقية اليهود في التواجد داخل إطار أي دولة قومية، وشدد على أن الصهيونية تتعارض مع تعاليم اليهودية. كما عمل عدد من الحاخامات الكبار في البلدة القديمة في القدس إثر وعد بلفور على إلغاء القرار، ومنع تمكين الصهاينة من دولة في فلسطين.

اغتيل الحاخام اليهودي يعقوب دهان عندما حاول التصدي لوعد بلفور وإلغائه، وتعرض رئيس الحركة ماشوريهرش إلى مادة حارقة أفقدت إحدى عينيه القدرة على الإبصار. أعضاء هذا المجتمع يرفضون قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 على مدار السنين هجرهم الكيان إلى بلدان أخرى منها لندن ونيويورك. 

هم أصوليون دينيون لا يتحرجون من التعبير عن مواقفهم علناً، يعتقدون أن الكيان هو الذي اغتال ياسر عرفات. ويقولون: "جميع كتب التوراة لديهم (الصهاينة) نزلت بعدنا، كتابنا هو الأساس، به الوصايا العشر، إحداها لا تقتل!!" يعتمدون التلمود البابلي، القائل بأنه لا يجب محاولة استرداد دولة إسرائيل بالقوة، لا يقتربون من حائط البراق، حيث يعتبرونه مدنساً من قبل الصهاينة، وحسب تعاليم التوراة ووصايا كبار الحاخامات يعتبرون أن الوصول إلى المسجد الأقصى ممنوع ومحرم، يقول الحاخام هيرش قائد الحركة "إن كل الأرض حق للفلسطينيين".

 تجد معارضة هؤلاء للصهيونية مظاهرها في الطبيعة الصدامية لعلاقتها مع كل رموز وأجهزة الدولة، يظهر ذلك في عدم اعتراف هؤلاء بدولة الكيان، حيث لا يسجلون أبناءهم في مصلحة الأحوال الشخصية، لا يسعون إلى الحصول على بطاقات الهوية، ويرفضون التصويت في الانتخابات والمشاركة في إيجاد شرعية للحكم الغاصب القائم. كما تنتشر في الحي أعلام فلسطين والشعارات المساندة للقضية الفلسطينية، حتى إنهم يحرقون علم الكيان كل عام في ذكرى تأسيسه، موقفهم الجذري وإصرارهم على مواجهة النظام وجد صداه ميدانياً وسياسياً. 

فإضافة إلى الندوات التي يقيمونها في الجامعات والحركات الاحتجاجية التي يشاركون فيها بقوة، تربطهم علاقات مع أهم الأطراف المناهضة للوجود الصهيوني من حركة حماس، وحزب الله، والدولة الإيرانية، وحركة المقاطعة، ونزع الاستثمار والجزاءات، وكل المجموعات والتنظيمات الرافضة لدولة الكيان. وقد كلفهم هذا الموقف تنافراً شديداً مع النظام، تَمثّل في مواجهات عنيفة ومتواصلة مع قواته، ولكن لوجستياً لا سلاح ولا قدرة لديهم على مجابهة جبروت الصهاينة، حالياً حي ميا شريم، حيث يقطن مجتمع حركة ناطوري كارتا هو أكثر الأحياء انغلاقاً في القدس، ويخضع حصرياً وفقط لتعاليم التوراة، ينتهج سكانه نمط حياة مختلفاً، يعطي الانطباع بالوقوف في الزمن، يعاني سكانه من نقص الخدمات الضرورية، حيث يكلفهم الولوج إلى الخدمات الصحية أو الحصول على المياه الكثير، على عكس بقية سكان الكيان الحاملين للجنسية من يهود متشددين، ويهود معتدلين، وعلمانيين وعرب، كانوا يعيشون على التبرعات من الخارج، ثم تم تقييد هذه التبرعات ومنع وصولها إليهم، يجد ذلك أسبابه فيما سبق من عرض لمعارضتهم الجذرية لقيام دولة الكيان، خلقت هذه الوقائع والحوادث واقعاً تتقاطع فيه مصالحهم مع مصالح الفلسطينيين.

أيضاً تتعرض حكومات الكيان المتعاقبة إلى نقد من طرف المواطنين من غير المتشددين، وذلك لحفاظهم على ممارسة بعينها مع مرور الوقت رغم تغير المسؤولين. نتحدث هنا عن سياسة التجنيد (5)، حيث تكاد تكون الخدمة العسكرية إضافة إلى طابعها الإلزامي من مكونات وطنية المواطن، ومن ركائز أحقيته بالجنسية الإسرائيلية. بعد إنهاء الدراسة وقبل الالتحاق بالعمل يجب على كل مواطن ذكراً كان أو أنثى أن يلتحق بالخدمة العسكرية، لتلقي تدريب تصفه حكومات الاحتلال بالضروري للدفاع عن الوجود الإنساني لمواطني الكيان من خطر عدو ظالم يتربص بهم. 

وأن تتم تهيئة الأطفال منذ سنوات الدراسة الأولى إلى استحقاق شرف الانتماء إلى صفوف الجيش، والاضطلاع بمهمة المساهمة في الدفاع عن الوطن والأهل والأرض، فإن سياسة الدمج تجد حدوداً لها في قناعات الكثير من شباب الكيان. حالياً توجد في فسلطين المحتلة حركات ومنظمات مهيكلة ومؤسسة، ينشط بها أعضاء ضد سياسة عسكرة المجتمع، منها حركة نيو بروفيل، الرافضة للخدمة العسكرية لأسباب هي بالأساس أخلاقية، إذ لا يرى المنتسبون/ات لهذه الحركة جدوى من العنف المجاني، يرفضون حمل السلاح وارتكاب القتل، بل ويرون أن سياسة حكومتهم إقصائية واستيطانية. 

كما مثلت تصريحات مجموعة كاسري الصمت أشد الإحراج لسلطة الكيان، بعد ما قدمته من معلومات ترتقي إلى أدلة إدانة في المحاكم الدولية. تشهد مجموعة "كاسري الصمت" التي تقف ضد جرائم الكيان على جرائم جيش الاحتلال، وتتكون من مجندين/ات سابقين/ات في الجيش. وجد هؤلاء المجندون/ات أنفسهم في وضعية تناقض بين ما تلقوه من تلقين للعنف والكراهية والحاجة إلى الدفاع عن النفس منذ نشأتهم الأولى، وبين ما تمليه عليهم المبادئ الإنسانية.

 يروي هؤلاء الممارسات الإجرامية لجيش نظامهم، التي نفذوها في إطار تعليمات قادتهم، ويشهدون أمام المحاكم الدولية وحتى الصهيونية على السياسة الاستيطانية لدولة قامت على جرائم ضد الإنسانية. في 2016 قامت منظمة كاسري الصمت بجولات أسبوعية لمرافقة كتاب صحفيين ونواب أجانب حول المستوطنات التي تمت منها عمليات ضد الصهاينة. 

أحرجت شهادات ومقاطع فيديو نشرها كاسرو الصمت المقاتلين والضباط السابقين الذين حاربوا في الخليل في 2015. وأقامت الدليل واضحاً حول زيف الخطاب الذي توجهه سلطة العدو لشعبها، والحجج التي تسوقها للعالم، بعد مسرحية نظامية تظاهرت بكفالة حق التعبير في إطار ديمقراطية الدولة، تعرضت هذه المجموعة إلى تضييقات، ووصفوا بالعمالة، في حين أن هؤلاء يؤكدون على تمسكهم بجنسيتهم. كما تفيد الإحصائيات بأن %70 من الشعب الإسرائيلي لم يعد يرغب في مواجهات إقليمية.

كما تنشط في دولة الكيان العديد من المنظمات الناقدة للسياسة الاستيطانية لحكوماتها ومنها "ذاكرات" وهي جمعية تأسست سنة 2002، والهدف منها تذكير المجتمع اليهودي في الكيان بالنكبة والتوعية بعواقبه الوخيمة، وإشعارهم بضرورة العمل على إنفاذ حق العودة والمصالحة بين الشعبين اليهودي والفلسطيني. 

كما توجد العديد من المنظمات والجمعيات والحملات الأخرى في الداخل والخارج المساندة للشعب الفلسطيني، منها منظمة صوت اليهودي من أجل السلام، وهي منظمة تناهض سياسة إسرائيل وأمريكا تجاه الفلسطينيين والمتضامنين الدوليين، وهي اللجنة الدولية لكسر الحصار على غزة، ومؤسسة السلام الآن الإسرائيلية تنشط ضد بناء المستوطنات. 

بعيداً عن الطبيعة الرجعية لحركة ناطوري كارتا (إذ هم يساندون العرب انتصاراً لأحكام عقائدية وليس إيماناً بحقوق إنسانية مدنية)، وعن توصيف درجة جذرية الحل السياسي لجمعيات مثل هذه، يمكن أن نستنتج أن سياسات الكيان القمعية قد أصبحت أقل مشروعية وقبولاً من الداخل الصهيوني نفسه، النخبة اقتنعت أنه لم يعد من الممكن تجاهل وجود الفلسطينيين… أما النخبة الاقتصادية فتعتبر الحرب والمواجهة عائقاً أمام ازدهار التجارة والمبادلات. 

قد تكون دولة الكيان حققت بعض الإنجازات، تخص مجالات محددة طوال تاريخها الاستعماري، لكن لا يجب تناسي ما قدمه لها العالم والكثير من الدول من الدعم والإسناد. وحتى في إطار التسويق الإعلامي لهذه المعجزة الحضارية فإن السياق يكون دائماً في إطار المقارنة مع بقية بلدان المنطقة، وليس هذا سوى دليل آخر على حجم الدعم المختلف الأنواع الذي يتحصل عليه هذا الكيان، لقاء ما يقدم للغرب من خدمات في المنطقة.

ملاحظات ومراجع 

(1) ضمنت لجنة بيل في تقريرها فكرة الترانسفير: حيث أقرت مبدأ ترحيل العرب من الأراضي اليهودية عند الضرورة. هذا التخطيط المنهجي لتطهير البلاد من العرب قامت عليه لجنة خاصة اسمها لجنة الترانسفير، ليتسنى ترويج فكرة أن أرض فلسطين هي بلا شعب. 

(2) اليهودية الحريدية هي طائفة محافظة تنتمي لليهودية الأرثوذكسية. بدورها تنقسم هذه الطائفة إلى مجموعات مختلفة، لا يوجد بينها توافق على أسلوب الحياة والعقائد الجديرة، ولكنها تتميز بصفات مشتركة، تحرم عليهم وسائل الإعلام والآلات الإلكترونية بأنواعها، أما الأخبار فيتم تداولها معلقة على الجدران.

(3)

https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/7/23/%D8%AA%D8%AE%D9%8A%D9%84-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%A3%D9%88-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7

(4)

(5)

https://palestinefilms.org/Film/2007/%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أميرة حجلاوي
ناشطة تونسية سياسية
ناشطة سياسية يسارية
تحميل المزيد