من قراءات الصيف المدهشة سيرة الموسيقار الإيطالي الشهير كلاوديو آبادو (حفيد المعتمد بن عباد) وأحد أعظم الموسيقيين في العصر الحديث.
لا شك كنت منبهراً بالحياة الغنية للرجل، ولكنني كنت أتصفح الكتاب سريعاً بحثاً عن شيء محدد. لم أهتم كثيراً بأسرة أمه التي جاءت من صقلية ولا بجده لأمه عالم الأديان العجيب الذي ترجم في الثلاثينيات إنجيلاً آرامياً فمنعته الكنيسة لأنه يتحدث عن إخوة وأخوات ليسوع المسيح. كان اهتمامي منصباً على أسرة أبيه. فأنا لمن لا يعرف أهوى تتبع بقايا الأندلس ليس فقط الثقافية، مادية ومعنوية، ولكن البشرية أيضاً. أين ذهبت بالضبط بقايا كل هذه الملايين الأندلسية؟ طبعاً ذهب كثير منها إلى بلاد الغرب الإسلامي واستقر بعضها في الدولة العثمانية وبعضها في مصر وهولندا وغيرها.
ولكن الأكثرية تم استعبادها بالتأكيد. بعضهم ذاب بالكلية في الخضم الأوروبي داخل القارة العجوز وخارجها. لكن العجيب فعلاً أن بعضها احتفظ باسمه ومعرفة أصله. وتجد من هذا الصنف كثيراً من العائلات التي ما زالت تحمل أسماءً عربية الأصل وإن تم تحريفها قليلاً أو كثيراً. ومن هؤلاء عائلة (آبادو) الإيطالية التي تمثل النسل الأوروبي المتكثلك للمعتمد بن عباد والتي نزحت من إسبانيا لإيطاليا في زمن لا أعرفه وأقامت في مدينة (ألبا) بشمال إيطاليا قرب الحدود الفرنسية. وهي عائلة كما يبدو من الكتاب ثقافية موسيقية ندر أن تجد شخصاً منها غير موهوب في أمر ما متصل بالفن والثقافة، ومن أشهر موهوبيها بالطبع كلاوديو آبادو وأبوه عازف الكمان مايكلانجلو آبادو، وأخوه الأصغر مارتشيللو آبادو. من الأمور الأساسية بالفعل أن الرجل كان يعرف أصله وفصله وأن الموهبة كما قال في الجينات وأنهم ورثوها عن جدهم الأكبر الشاعر الأندلسي الكبير وملك إشبيلية المعتمد بن عباد. وفي الكتاب إشارات قليلة عن اكتشافه لأشعار جده العظيم في (الأرشيفات) بعد كل هذه القرون!
والحقيقة فإن المعتمد في البداية لم يكن شاعراً كبيراً، وكان ينظم شعراً خفيفاً في الغالب للتسلية والمؤانسة. وقد عاش فترة في أبهة الملك ورفاهيته حتى أدركته الحوادث الكبرى والمآسي المتتالية التي كأنما صاغته بنارها حتى أخرجت لنا المارد الشعري الذي بداخله. فعندما حاصر المرابطون إشبيلية توالت الهزائم على جيوش المعتمد وقتل ولديه (المأمون) في المعركة و(الراضي) بعد أن استسلم للمرابطين! وبعد الهزيمة استولى الفزع على أهل إشبيلية، وتفرقت جموع المعتمد عنه، وفت في عضده، فعاد باتجاه قصره ولكن أدركته الخيل، فاستسلم للأسر. وبعد ذلك قرر المرابطون نفيه إلى المغرب. وكان المعتمد فيما يبدو محبوباً من رعيته التي حزنت لمصيره ومصائر أهله. وعندما حُمل مقيداً مع ما بقي معه من أهله، على سفينة، كي ينقلوا مأسورين منفيين إلى المغرب، خرجت الناس من بيوتها فزعة لتودع الموكب. وقد وصف أبوبكر الداني (ابن اللبَّانة) هذا المشهد الحزين بقوله:
سَارَتْ سَفَائِنُهُمْ وَالنَّوْحُ يَتْبَعُهَا // كَأَنَّهَا إِبِلٌ يَحْدُو بِهَا الحَادِي
أما المعتمد فكان مثقلاً بهمومه لا يعرف مصير بقية أهله، تؤلمه القيود التي يخاطبها مذهولاَ:
قَيدي أَما تَعلمني مُسلما // أَبَيتَ أَن تُشفِقَ أَو تَرحَما
دَمي شَرابٌ لَكَ وَاللَحمُ قَد // أَكَلتهُ لا تَهشم الأَعظُما
فلما وصل مراكش أدخل على يوسف بن تاشفين الذي أمر بإرساله ومن معه إلى بلدة (أغمات) قرب مراكش. وهناك عاش المعتمد أسيراً فقيراً معدماً. وقد أسالت الأحزان المتكالبة قريحته فكان شعره في تلك الفترة خير معبر عن محنته الأليمة التي جعلته شاعراً كبيراً ذا تجربة نادرة في الأدب العالمي. وكل ما قاله آنذاك حافل بهواجس الحنين والغربة والأمل في العودة إلى وطنه. ولكنه بقي في (أغمات) إلى أن وافته المنية (488 هـ / 1095م) ودفن فيها وأصبح قبره مزاراً شهيراً، وبه لوحة رخامية عليها قصيدته التي يرثي نفسه فيها:
قَبر الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي // حَقّاً ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ
لا ريب أن فرعاً من نسل المعتمد بن عباد ما زال موجوداً في المغرب يعرف نسبه ويفخر به، ولكن ماذا حدث لمن بقي من أولاده وبناته وأحفاده الصغار في الأندلس ولم يتم نفيه إلى المغرب، تلك هي المعضلة. كان للمعتمد من الذكور: المأمون والراضي وعبدالجبار والرشيد وعباد والفتح ونحن نعرف مصير بعضهم ولكن لا نعرف ماذا حدث لأبنائهم الذين لم ينفوا مع جدهم. وكان للمعتمد من البنات عدد نفي بعضهن معه وقد أشار لرقة حالهن:
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً // يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ // كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا
أما بقية البنات فقد اختفين ولم تظهر منهن تاريخياً إلا واحدة اسمها (بثينة)، لأنه تم استعبادها وبيعت في أسواق الرقيق (رغم أن الحرب كانت بين فرقتين من المسلمين ولا يحق لهم شرعاً اتخاذ أسرى مستعبدين من بعضهم البعض). ومع ذلك هناك من أسر هذه البنت وباعها! وكان حظها أن اشتراها أحد التجار الأندلسيين فلما أراد أن يدخل عليها امتنعت منه، ولأنها كانت متحدثة لبقة أخبرته بنسبها وأنها لا تحل له إلا بعقد شرعي. فراسلا الأب المسكين الذي فرح بأن ابنته هذه ما زالت حية ولم يكن له إلا أن وافق على زواجها بل وأوصاها قائلاً:
بنيَّتي كوني له بَرَّة // فقد قضى الدهر بإسعافه
ولاحظ أن هذا حدث لفتاة شابة فماذا حدث إذن لأولاده وأحفاده الصغار؟ الأرجح بالطبع أنهم أيضاً بيعوا عبيداً. فهل كانوا يتابعون مصير والدهم أو جدهم؟ وهل عندما عرفوا بمصيره المحزن فقدوا الأمل في أي استنقاذ وضاع مصيرهم؟
هذا بالضبط بعض ما كنت أبحث عنه في كتاب (كلاوديو آبادو). لقد كانوا أصغر من أن يقاوموا ولم يجدوا مفراً من الاستجابة لمنصريهم فشبوا على ذلك وذابوا والأجيال التي تبعتهم هناك. ورغم ذلك ها هي بعض آثارهم تظهر بعد مئات السنين.
وآنذاك كانت الكنيسة تغير أسماء المتنصرين وتترك لهم أسماء عائلاتهم إذا كانوا من علية القوم، ولذا توجد في إسبانيا حتى الآن كثير من أسماء العائلات ذات الأصول العربية النبيلة مثل بني أمية الذين ما زالوا تجاراً فاحشي الثراء كأنه بالفعل شيء في الجينات! ومن هذا المنطلق أتصور أنهم (أي كانوا) احتفظوا لأحفاد المعتمد بن عباد باسم عائلتهم ومن هنا يأتي اسم (آبادو). ورغم أن البعض حاول ويحاول التواصل مع من بقي من أقربائه المسلمين في المغرب (مثل: بلاس إنفانتي وراموس إسبيخو)، فإن كلاوديو آبادو لم يفعل للأسف! ولأنه مات فقد ضاعت للأسف فرصة سؤاله. ولأنني عرفت أنه ترك كل أرشيفه الضخم للمكتبة الوطنية ببرلين فربما سجل شيئاً ما ولن ينشر إلا بعد حين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.