ما لن يخبرك به أحد عن السفينة الجانحة في قناة السويس

عربي بوست
تم النشر: 2021/07/10 الساعة 10:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/10 الساعة 10:31 بتوقيت غرينتش
سفينة إيفرغيفن التي علقت بقناة السويس - رويترز

منذ أكثر من 3 أشهر، أُصيبَ واحدٌ من أهمّ المجاري الملاحية البحرية عالمياً، قناة السويس، بالشلل المؤقت، نتيجة جنوح إحدى السفن العملاقة في قلب الممرّ، مما سبب مخاوف كثيرة لدى عدة أطراف، على رأسها الجانب المصريّ، بالإضافة إلى أرباب التجارة العالمية، وملاك السفينة، وأصحاب الحاويات الموجودة داخلها، من عواقب هذه الأزمة.

كان لتلك الأزمة شقان: الشقّ الأول، هو المتعلق بالقدرة على تعويم السفينة وإعادة الحياة للمجرى الملاحيّ الاستراتيجيّ، والثاني هو تسوية الأزمة مع السفينة البنمية العالقة، بعد انتهاء أزمة الجنوح.

يوم الأربعاء الماضي، أُسدلَ الستار رسمياً على الأزمة بشقيها، وهو خبرٌ جيد لكلّ الأطراف المعنية بما في ذلك الشعب المصريّ.. غير أنَّ الخبر غير السارّ، هو أننا لم نعلم بعد، على وجه الدقة، ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ فقد تعامل النظام المصريُّ مع الأزمة التي تهمُّ العالم بأسره، كما لو كانت سراً حربياً، أو شأناً داخلياً محضاً لا يهمّ العالم. 

في هذه المقالة، نحاول إعادة صياغة القصة وقراءة الأحداث، من عدة مصادر مختلفة ذات موثوقية، لمحاولة تقديم السردية الأقرب إلى الحقيقة بهذا الشأن، من أجل التوثيق، واستخلاص العبر من الأزمة، لعلَّ أحداً من ذوي الشأن يجد فيها ما يهمه.

ارتباك وتضليل متعمد

يوم الـ23 من مارس/آذار الماضي، قبل حلول الثامنة صباحاً، جنحت "إيفرغيفن"، والجنوح مفردةٌ تقنية مكثفة للغاية لوصف ما حدث، سفينةُ بضائع ضخمة، يعادل طولها البالغ 400 متر نحو 4 ملاعب كرة قدم كما أوضح الخبراء حينئذ، ويبلغ عرضها الذي جنحت به في المجرى نحو 55 متراً، وفي باطنها نحو ربع مليون طنّ من البضائع، خلال رحلتها من الصين (آسيا شرقاً) إلى هولندا (أوروبا غرباً) عند المدخل الجنوبيِّ لقناة السويس، بالقرب من الكيلو 151 تحديداً، حيث يبلغ الطول الإجماليّ للقناة نحو 190 كم.

بالرغم من كون القناة عُرضى، وقد تعرضت بالفعل، إلى الكثير من هذه الحوادث، منها حادثتا جنوح في عام 2016، استمرت إحداهما 12 يوماً للسفينة "نيو كاترينا"، وأخرى في يوليو/تموز عام 2018 لسفينة تدعى "إينيس" أدت إلى فوضى في المجرى الملاحيِّ وتصادم خفيف لبعض السفن؛ فقد أصيب القائمون على القناة بنوع من الصدمة من الحادث.

بدت هذه الصدمة في الأخبار المتضاربة عن الوضع والتعليمات الأمنية المشوشة الصادرة إلى وسائل الإعلام؛ فقد أنكر القائمون على القناة، أو تجاهلوا عن عمد بمعنى أدقّ، ما يحدث في المجرى الملاحيّ، مسلطينَ الضوء، بدلاً من ذلك، على عبور إحدى البواخر الإيطالية المحملة بعدد من المصابين بفيروس كورونا من القناة بنجاح ودون عوائق، فيما كانت الصحف العالمية، ومواقع التواصل الاجتماعيّ، تتحدث عن وجود مشكلة كبرى في القناة.

وفقاً لصور الأقمار الصناعية التي بُثت حينها، فقد حاولت هيئة قناة السويس تمرير قافلة من السفن عبر المدخل الشماليِّ للإيحاء باستمرار الملاحة، أو تعطُّلها مؤقتاً على نحو غير كارثيٍّ؛ إلا أن صور الأقمار الصناعية نفسها، وأخبار الصحافة العالمية، كانت تشي بغير ذلك. 

في إجراء بيروقراطيٍّ يليق بأواخر العصور الوسطى، منعت الهيئة وجود أيٍّ من المراسلين الإعلاميين، المصريين والأجانب، بالقرب من المجرى الملاحيِّ، وشددت بالتنسيق مع القوات المسلحة، إجراءات التأمين، على بعد كيلومترات من القناة، منعاً لأي محاولة تسلل أو تصوير، ونبهت على المؤسسات الصحافية المحلية ضرورة التقيد بالبيانات الرسمية الصادرة عنها، وأرسـلت رسائل بريد إلكترونيّ إلى شركات الشحن البحرية العالمية بغرض طمأنتهم على الملاحة في القناة، وأنّهُ سيجري حلُّ الأزمة التي لم يعلن عنها رسمياً بعد، قريباً، ولم تعلن القناة عن الواقعة، إلا في نهاية اليوم التالي لحدوثها، أيّ بعد حوالي 48 ساعة من الجنوح.

بعد الإعلان الرسميِّ عن الحادثة بوقت قليل، بدأ أيضاً تسريبُ أخبار غير دقيقة بأنَّ السفينة في طريقها إلى التعويم، بينما كان المخاض لا يزال متعثراً. 

السبب في هذه الفوضى، على الأرجح، أنه إلى جانب المشكلة المستمرة منذ عام 2016 بخصوص تمويل توسعة القناة وإضافة طريق مواز إلى الممر الشماليّ بقيمة 8 مليارات دولار على الأقلّ، قبل تعويم الجنيه، دون أيّ عوائد ملحوظة، بل على العكس، رُصد انخفاض لاحق في مداخيل القناة لأسباب من بينها تراجع التجارة العالمية بفعل آثار جائحة "كورونا"، فقد كانت هناك خشيةٌ لدى القائمين على القناة والقيادة السياسية، من أثر تداخل عدد من الدول في هذه الأزمة، ما بين مالكٍ ومُشغل وفنيين، من اليابان والهند وتايوان وبنما، وسط أخبار أصلاً تتحدث عن مشاريع لاستبدال القناة أو التقليل من المرور فيها.

من المسؤول؟ تغيّر السرديات

ربما ليس أدلَّ على دقة هذا التحليل، من مسارعة الهيئة، بعد الاعتراف الرسميِّ بالأزمة، إلى عزو السبب في الجنوح، إلى سوء أحوال الطقس وسرعة الرياح الشديدة، وهو ما يعني أنَّ ربان السفينة وطاقمها غير مسؤولين، عما وقع، وهو ما يعني أيضاً، أنَّ التقدير الأوليَّ من القيادة الفنية لهيئة قناة السويس أنها كانت مسؤولةً، بشكل ما عما جرى، فتمَّ عزو المشكلة إلى سبب محايدٍ، طبيعيّ، حتى لا تضع القناة نفسها في مأزق قانونيّ وتسويقيّ عن الحادث. 

ولكن لما استطاعت الهيئة، بجهود ذاتية خالصة، باستخدام أسلوب القطر والحفر، تعويم السفينة، متغلبةً على الظروف الطبيعية غير المواتية، على غرار موجات "الجزْر" المفاجئة، وإعادة الملاحة تدريجياً إلى حالتها، في وقت أقلّ من المتوقع، وهو ما اعتُبر نجاحاً للإدارة المصرية للأزمة في هذا الجانب، تغيرت السردية الرسمية، عن سبب الحادث، وعن المسؤول عن الجنوح؛ فلم يعد السبب طبيعياً وإنما بشرياً، من طاقم السفينة نفسه.

ما الذي تغير إذاً؟ دفع نجاح الهيئة في قَطْر السفينة سريعاً، وإشادة المجتمع الدوليّ بالجهود الفنية المصرية لعودة الملاحة في هذا الشريان الحيويِّ إلى طبيعتها، دون الاستعانة بأي مساعدة خارجية، بالإضافة إلى وجود السفينة في الأراضي المصرية، والاحتكام إلى محكمة مصرية، هي محكمة الإسماعيلية، وفقاً للقانون البحريّ المصريّ إلى تغيير السردية، ورفع السقف المتعلق بالتعويض، إلى حدّ وصوله إلى ما يصل إلى مليار دولار أمريكيّ، كما قال مسؤولون مصريون، من بينهم رئيس الهيئة.

بعد شهرين من الحادث ضمن هذا المسعى، نفت الهيئة أن يكون للمرشديْن اللذين رافقا السفينة خلال مرورها في القناة وحتى جنوحها، حتى إذا تسببا في أي خطأ توجيهي، أيُّ دور إلزاميّ لربّان السفينة، ونفت أيضاً "سرديتها الأولى" عن السبب في جنوح السفينة، والتي عزت فيها الحادث إلى سوء الأحوال الجوية، مشيرةً إلى أنَّ الطقس السيئ لم يمنع 12 سفينة قبل "إيفرجيفن" من المرور الآمن من القناة، ومن ثمَّ فإنّ المسؤولية بالكامل تقع على عاتق طاقم السفينة الهنديّ.

في المؤتمر الصحايِّ المنعقد يوم الـ25 من مايو/آذار الماضي، أي بعد شهرين من التحقيقات؛ قالت الهيئة إنَّ مبلغ الـ916 مليون دولار أمريكي تعويضاً عن جنوح السفينة، قد تحدد وفقاً لعدة عوامل، أولها مسؤولية الربَّان عن الحادث، ما يعني أنّ الشركة المالكة وتحالف الشركات المؤمنة عليها هم المنوط بهم دفع التعويض، وأنّ المبلغ تحدد بعد حصر كلفة البضائع المحملة على السفينة، وقيمة السفينة نفسها، وحساب ما يسمى بمكافأة الإنقاذ، وتكلفة عمل معدات القطر والسحب لمدة تصل إلى أسبوع، بالإضافة إلى التعويض عن الخسائر التسويقية التي تكبدتها القناة وحركة الملاحة العالمية بسبب الحادث.

هنا، من المفترض أنَّ كلَّ شيء بات واضحاً ومحسوماً؛ فقد جرى تحديد هذا المبلغ الدقيق، بعد الرجوع إلى قانون البحار المصريِّ، وموادّهِ المتعلقة بحالة السفينة، وأكد المسؤولون أنه لا تراجع عن هذه القيمة بأيّ حال من الأحوال، لأنه حقّ الدولة والهيئة والمجتمع وفقاً للقانون، فيما سيكون الخيار البديل حال تعثرت المفاوضات: هو اتخاذ إجراء بشأن السفينة المتحفظ عليها في المياه المصرية التي تبلغ قيمتها- إلى جانب قيمة الحاويات  بداخلها- نحو ملياري دولار أمريكيّ.

الحقيقة

يعدُّ تطور القوانين والأعراف الحاكمة لحركة التجارة العالمية في البحار، فرعاً عن تطور العالم الحديث حضارياً؛ فلم نعد بصدد منطق العصابات والقراصـنة وقطاع الطرق، وإنما هناك آليات وإجراءات متبعة لمقاربة الحقوق المختلفة لجميع الأطراف في حالات النزاع، والحقُّ أنَّ النظام المصريَّ كان يتعامل مع الأزمة، منذ بدايتها، بمنطق العصابة، لا منطق الدولة.

منطق العصابة هنا، يقوم على التضليل والابتزاز والمراوغة والعشوائية، بدلاً من الاحترافية والمهنية والنظر إلى الأمور على المدى البعيد.

فبعد أن أنكرت القناة وجود أزمة في البداية، ثمّ عزتِ السبب في الأزمة إلى عامل طبيعيّ محايد خوفاً من تبعاتها، تراجعت عن سرديتها الأولى، بمجرد التوفيق في تعويم السفينة، من أجل الحصول على أعلى تعويض ممكن من الشركة، علماً بأنّ إجماليَ عائدات القناة سنوياً، بعد 12 شهراً من تحصيل الرسوم، هو 5 مليارات دولار أمريكي، أي أن التعويض المطلوب للقناة عن 6 أيام من الجنوح كان خمسَ عوائد القناة في عام.

من منظور وطنيّ، من الجيد أن تغاليَ القناة في تفاوضها مع الشركة المالكة للسفينة من أجل تحصيل أكبر تعويض ممكن إلى خزائن الدولة، ولكنّ الحقيقة والواقع، أنَّ القيادة السياسية والهيئة، كانا ينظران إلى الرأي العامّ المحليّ باعتباره خصماً في الأزمة، تماماً مثل الشركة اليابانية.

ليس أدلّ على تعامل النظام بمنطق العصابات- لا منطق الدولة- في هذه الأزمة من اضطرارهِ إلى تخفيض قيمة التعويض المطلوب إلى النصف، ليصل المبلغ إلى ما يقترب من نصف مليار دولار، بعد احتجاج التحالف القانونيّ الممثل للسفينة على تحميل طاقمها- وحده- مسؤولية الحادث، مشيراً إلى فريق الإرشاد المصريِّ، الذي وإن كان دوره استشارياً ثانوياً، إلا أنّ تفاعله مع الحادث، كما تبين من التحليل النصيّ للإشارات اللاسلكية الواردة في الصندوق الأسود للسفينة، كان ينمُّ عن "فوضى، وهرجٍ ومرجٍ، وتبادل للاتهامات بين أعضائه من جهة، وبينه وبين طاقم السفينة من جهة أخرى"، وهو ما يعيدنا إلى السردية الأولى الخاصة بدور الطقس السيئ في الجنوح، وتقاسم الطرفين مسؤولية الحادث، وإن كان طاقم السفينة يتحمل المسؤولية الأكبر بطبيعة الحال، على اعتبار أنّه من يقود السفينة فعلياً.

استغلّ النظام المصريُّ غياب أيّ مناخ للمساءلة القانونية أو النيابية أو الإعلامية له عن تفاصيل التحقيقات في الأزمة، وأخفى، بالاتفاق مع الممثلين القانونيين للسفينة، قيمة التعويض المدفوع، في امتداد للمنطق غير القانونيّ، الذي لا يضع أدنى اعتبار للرأي العامّ، في الاطلاع على الملفات الحيوية، مكتفياً بالتأكيد على أنه "تعويضٌ يراعي حقوق الهيئة، ومستقبل التعاون مع الشركة المالكة للسفينة، والمصالح المصرية اليابانية".

باستثناء استغلال انفراجة الأزمة الأولى بنجاح التعويم في التلويح الرئاسيّ لأول مرة بإمكان استخدام الحلّ العسكريّ في ملفّ سدّ النهضة، للفت نظر العالم إلى أهمية الحفاظ على الاستقرار في مصر التي تتحكم في هذا المجرى الملاحي الاستراتيجيّ؛ فإنّ الإدارة السياسية- والفنية- للحدث كانت دون المستوى. تعتيم، وتضليل، ومراوغة، فضلاً عن غياب الرئيس- كالعادة- عن التواصل مع الرأي العام، إلا بعد انتهاء الأزمة.

منذ البداية، حدد أحد المسؤولين السابقين في الحكومة المصرية من التكنوقراط، وهو الوزير أحمد درويش، أنَّ الأهمَّ من أيّ مكاسب مادية في إدارة هذه الأزمة، وهي مهمة بطبيعة الحال، هو الرسائل التي ستنقلُها مصر إلى العالم تسويقياً عن إدارة القناة، خاصة في ظلّ الحديث عن منظومة متنوعة من البدائل المنافسة، من الأنابيب العابرة للدول، والقنوات المائية المشابهة، وخطوط السكك الحديد، والطرق القديمة.

وحتى نرى إلى أي مدى راعى المسؤولون المصريون هذا المعيار في تعاملهم مع الأزمة؛ فقد أكد الرئيس المصريُّ، عبدالفتاح السيسي، كما لو كان باحثاً محايداً في ملف التجارة العالمية بالأمم المتحدة، خلال المؤتمر الصحافيّ الخاصّ بنجاح التعويم على "حقّ كل الدول في منافسة قناة السويس وحقّ القناة في تطوير أدائها"- وأثلجَ رئيس الهيئة قلوب المصريين بالإعـلان عن حصولها على قاطرة ضخمة كهدية من الشركة اليابانية، بعيداً عن مبلغ التعويض، الذي لا يعلم أحد قيمته، وإلى أي مدى انخفض.. وهو فصلٌ جديد من فصول إخفاق هذا النظام في التعامل مع الطوارئ، ولا يزال القوس مفتوحاً للأسف.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد