إن أي قارئ لمذكرات الساسة والشخصيات العامة التي تتناول الأحداث السياسية في مصر خلال العقد الثاني من القرن العشرين مثل مذكرات سعد زغلول، وحوليات رئيس الديوان الخديوي أحمد باشا شفيق، ومذكرات الوزير السابق وأحد أبرز قادة الرعيل الأول من النضال ضد الاحتلال عبدالعزيز علي، والمعنونة باسم (الثائر الصامت)، عادة ما يجد حديثاً مقتضباً عن شخص يُدعى جورج فليبيدوس وصفه أحد الضباط الإنجليز ذات مرة بأنه (أقوى رجل في مصر).
من هو جورج فليبيدوس؟
في عام 1910 وقع أول حادث اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديث إثر استهداف رئيس الوزراء بطرس غالي على يد الصيدلي إبراهيم الورداني، عضو جمعية التضامن الأخوي المنبثقة عن الحزب الوطني، وهو الحادث الذي كتب عنه المعتمد البريطاني جورست رسالة لوزير خارجيته إدوارد جراي قائلاً: "كان المصري الوحيد الذي أشعر دائماً أني أستطيع وضع ثقتي فيه، ولا أستطيع التخلص من الإحساس بأنه كان ضحية ولائه لسياستنا في هذا البلد، وإن جريمته الحقيقية في نظر الوطنيين تتمثل في أنه خدمنا بإخلاص" (5 أيام هزت مصر: التاريخ السري لمصر بالوثائق البريطانية والأمريكية، محسن محمد).
عقب الحادث أسس الإنجليز جهازاً أمنياً باسم (مكتب الخدمة السرية) يتبع بوليس القاهرة، ويختص بحماية كبار السياسيين المصريين المتعاونين مع الاحتلال، ومكافحة الأعمال السياسية المناوئة للإنجليز، وجمع المعلومات عن الجمعيات الوطنية السرية، ومراجعة بيانات الموظفين المصريين بالحكومة، وكتابة تقارير أمنية عن أداء ضباط وأفراد الشرطة، وتقديم تقارير يومية عن الحالة السياسية. ويُعد المكتب المذكور بمثابة أول جهاز مؤسسي للأمن السياسي في مصر، ويمثل النواة التي تطورت لاحقاً لتشتهر باسم القلم المخصوص، ثم المباحث العامة، ثم مباحث أمن الدولة، وصولاً إلى الاسم الحالي منذ عام 2011، وهو قطاع الأمن الوطني.
أسند الإنجليز قيادة (مكتب الخدمة السرية) إلى شخص من الشوام يجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية يُدعى "جورج فليبيدوس" سبق له أن انضم إلى الخدمة بوزارة الداخلية المصرية في عام 1885. وقد خدم فليبيدوس تحت إشراف الضابط الأسكتلندي هارفي باشا الذي بدأ حياته المهنية في مصر بالمشاركة في عمليات تمشيط التل الكبير لمطاردة أنصار عرابي في عام 1883، قبل أن يتولى منصب حكمدار القاهرة خلال الفترة من عام 1888 إلى عام 1918 حيث خلفه في منصبه نائبه راسل باشا.
خلال رئاسة فليبيدوس لمكتب الخدمة السرية أقنع البريطانيين بأن تصفية الحزب الوطني هي الخطوة الصحيحة لإضعاف الحراك السياسي والجمعيات السرية المناهضة للاحتلال، فوجه ضربات قاسية للحزب داخل البلاد، كما تابع كوادر الحزب خارج مصر عبر تأسيس فروع خارجية للمكتب في لندن وباريس وجنيف لمتابعة نشاط الطلاب المصريين هناك إثر نفي "محمد فريد" عام 1912. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى ازداد نفوذ فليبيدوس مع تخويله سلطة توقيف ونفي المشتبه بتعاونهم مع الأتراك والألمان خارج البلاد. وأصبح فليبيدوس حسب تعبير راسل باشا نائب حكمدار القاهرة آنذاك "صاحب قوة معتبرة، يخافه الجميع، ويعملون له حساباً، وبالرغم من الزيادة الكبيرة في فساده لم يكن أحد يتجاسر للإبلاغ عنه". كذلك أقر راسل باشا في مذكراته بأنه تلقى تحذيرات من أحد رؤسائه الإنجليز بتجنب اتخاذ أي موقف مناهض لفليبيدوس.
سقوط إمبراطورية فليبيدوس
في ظل امتلاك فليبيدوس سلطة نفي المشتبه بهم خارج البلاد، وترقية أفراد الشرطة بناء على التقارير التي يكتبها عنهم، أخذ يتلقى الرشاوى الباهظة من ضحاياه، وبالأخص من أعيان الريف والأثرياء الذين كان يبتزهم بإمكانية كتابة تقارير عنهم تفيد بأنهم متعاطفون مع تركيا. ولتجنب أي متابعات أمنية وتتبع لأموال الرشاوى، فقد حرص فليبيدوس على تلقيها على شكل عملات معدنية وتجنب تسلم أوراق البنكنوت ذات الأرقام المتسلسلة.
بدأت رحلة سقوط فليبيدوس عندما أوفد في عام 1916 ذراعه اليمنى محمد محمود إلى منزل راسل باشا ليترك هدية عبارة عن قرطين من الألماس كهدية لزوجة راسل نائب الحكمدار. ثم بعد عدة شهور وصلت معلومة لراسل باشا بأن أحد ضباط الشرطة رهن مجوهرات زوجته في مقابل حصوله على توصية بترقيته من فليبيدوس لدى الحكمدار هارفي باشا. فاستدعى راسل الضابط ورتب معه استعادة متعلقاته عبر سيناريو يتيح القبض على فليبيدوس ومساعديه، لكن الحكمدار هارفي باشا ثار عندما استأذنه راسل باشا في توقيف فليبيدوس، وقال لراسل إنك صغير السن وعديم الخبرة. لكن تحت ضغط راسل باشا سمح هارفي بتسجيل مكالمات فليبيدوس وزوجته، وهو ما يمثل تطوراً تقنياً بمعايير ذلك الوقت. ويذكر راسل باشا أنه احتاج إلى جهد كبير لإقناع مدير التليفونات الأرمني الأصل بأنه هو وعائلته سيكونون في مأمن من انتقام كبار المسؤولين على خلفية سماحه بتسجيل مكالمات فليبيدوس. ومن اللافت ما رواه راسل بأنه تعرض لمراقبة لصيقة من رجال فليبيدوس بعد أن بدأ في تتبع خيوط عصابته بوزارة الداخلية.
وعقب إحكام راسل باشا للطوق حول رقبة فليبيدوس، وتجميع معلومات موثقة مبنية على اعترافات لضحايا فليبيدوس من ضباط الشرطة والأعيان والأثرياء الذين دفعوا له رشاوى أو تعرضوا لابتزازه، فضلاً عن تسجيلات المكالمات الهاتفية التي تثبت فساد فليبيدوس، أُلقي القبض في عام 1917 على فليبيدوس وزوجته. وحاولت الأخيرة خلال التحقيق معها إغواء راسل باشا بمفاتنها الأنثوية لثنيه عن مواصلة القضية، فيما زعم فليبيدوس أمام قاضي التحقيق أن راسل باشا دبر له مكيدة على خلفية عدم رضاه عن هدية أقراط الألماس المهداة له، ورغبته في هدية أكبر. لكن الأدلة المتنوعة والمتواترة عن فساد فليبيدوس فضلاً عن اعترافه بفبركة بعض القضايا السياسية والمؤامرات المزعومة، ساهمت في الحكم عليه بالسجن 5 سنوات، وعلى زوجته بالسجن سنة كما طُرد من الخدمة مساعده الإيطالي لوسكيافو. وبذلك انتهت بفضيحة مدوية الحقبة الأولى من مسيرة (مكتب الخدمة السرية). ويمكن عزو جهود راسل باشا المستميتة للتخلص من فليبيدوس إلى أن الأخير أصبح مركز قوة يخشاه كبار المسؤولين وضباط الشرطة؛ مما دفع راسل للتخلص منه.
ومن اللافت أن الفساد المالي والسياسي لازم أجهزة الأمن السياسي المصري منذ عهد "فليبيدوس" حتى اليوم. ففضلاً عن واقعة سجن فليبيدوس، نجد أنه عقب الإطاحة بحكم الملك فاروق في عام 1952 اُعتقل رئيس القسم المخصوص آنذاك اللواء محمد إبراهيم إمام، وخلال تحرك السادات ضد مراكز القوى في 15 مايو/أيار 1971 اُعتقل رئيس المباحث العامة اللواء حسن طلعت لمدة 4 شهور، وبعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 قُبض على رئيس مباحث أمن الدولة اللواء حسن عبدالرحمن. فعادة ما يكون رؤساء أجهزة الأمن السياسي في مقدمة من يدفعون ثمن التغيرات السياسية أو الصراعات بين المسؤولين على سدة الحكم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.