بين فترة وأخرى يخوض الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الصهيوني معركة الأمعاء الخاوية، من خلال إضرابهم عن تناول الطعام والماء، بغرض الضغط على إدارة السجون من أجل تحقيق مطالبهم. وفي وقت تشهد فيه الساحة السياسية الفلسطينية تجاذبات ومناكفات وصلت إلى حد التخوين؛ خاض الأسير الفلسطيني الغضنفر أبوعطوان من مدينة الخليل هذه المعركة لمدة 65 يوماً لينتصر على السجان الصهيوني؛ ويطلق سراحه يوم الخميس في الثامن من يوليو/تموز الجاري من مستشفى "كابلان" الإسرائيلي، بعد إبطال قرار الاعتقال الإداري للغضنفر، من خلال المتابعة القانونية من قبل المحامي الفلسطيني جواد بولس، في وقت يعاني فيه الأسير المحرر من ضعف شديد، وفقدان القدرة على الحديث، فضلاً عن آلام حادة في الصدر والظهر وتحديداً في الجهة اليسرى، إضافة إلى أوجاع شديدة في البطن، وفقدانه القدرة على تحريك أطرافه السفلى.
محاولات قتل روح المقاومة
تعتبر قضية الأسرى إحدى القضايا الجوهرية، فمنذ اللحظة الأولى للاحتلال سعت دولة الاحتلال الصهيوني إلى تطبيق سياسة مبرمجة للحد من احتمالات حصول المقاومة في مواجهة الاحتلال، فكانت السجون الإسرائيلية بديل المشانق ومكان القتل الروحي والنفسي للفلسطينيين أصحاب الأرض، ووظفت إسرائيل أدوات "القانون والقضاء الإسرائيلي" توظيفاً مخالفاً للقوانين والأعراف الدولية خدمة للأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية. وتبعاً للسياسات والإجراءات الإسرائيلية للحد من المقاومة الفلسطينية، تم اعتقال نحو مليون فلسطيني خلال الفترة من عام 1967 وحتى العام الحالي 2021، وكان من بين الأسرى آلاف من النساء والأطفال والشيوخ. ويلحظ الباحث والمتابع أن النسبة من أعلى النسب في العالم مقارنة بعدد السكان.
واللافت أن عملية الاعتقال والأسر كانت بمثابة حرب صهيونية على الفلسطينيين؛ للحد من حركة الشباب الفلسطيني وبالتالي المقاومة المشروعة لهؤلاء ضد احتلال مديد طالت سياساته الأرض والسكان والثروة الطبيعية. وقد كثفت إسرائيل من عمليات الاعتقال والأسر خلال الانتفاضة الأولى 1987-1994؛ إذ تم اعتقال (275) ألف فلسطيني غالبيتهم من القوة النشطة اقتصادياً المتمثلة بفئة الشباب، في مقابل ذلك اعتقلت إسرائيل (35) ألف فلسطيني خلال انتفاضة الأقصى التي انطلقت في نهاية سبتمبر/أيلول عام 2000. ويقبع في سجون الاحتلال خلال العام الحالي (4500) أسير، بينهم (41) أسيرة و(140) طفلاً، ووصل عدد المعتقلين الإداريين إلى (340) معتقلاً، ويتوزع الأسرى الفلسطينيون على اثنين وعشرين سجناً إسرائيلياً ومعتقلاً ومعسكراً ومركز توقيف. وبالنسبة لظروف الأسر والاحتجاز، فإن عملية احتجاز الأسرى الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية تتم في سجون ومراكز اعتقال عسكرية إسرائيلية تقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، فهناك خمسة مراكز تحقيق، وستة مراكز توقيف، فضلاً عن ثلاثة مراكز اعتقال عسكرية، وعشرين سجناً مركزياً تابعاً لمصلحة السجون الإسرائيلية.
وتعتبر عملية نقل الأسرى الفلسطينيين إلى سجون تقع داخل أراضي الدولة المحتلة إجراء غير قانوني مخالفاً للقانون الدولي؛ لأن اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالسكان المحميين تنص على وجوب قضاء السكان الذين تتم إدانتهم لفترة محكوميتهم "حكمهم" في الأراضي المحتلة، بند 48، كما أن هناك صعوبة لزيارات عائلات الأسرى نظراً للإغلاق الدائم الذي تفرضه إسرائيل ونظام التصاريح الذي يتحكم في حركة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والقدس الشرقية. وقد منعت إسرائيل زيارات العائلة ضمنياً؛ نظراً لإمكانية إلغاء أو وقف إسرائيل إصدار تصاريح للعائلات الراغبة في زيارة أبنائها في السجون الإسرائيلية من الضفة الغربية وقطاع غزة في الوقت الذي تحدده. ومن سياسات الاحتلال الإسرائيلي الجائرة، اعتقال الفلسطينيين حسب الأوامر العسكرية الإسرائيلية حتى ثمانية أيام، دون إعلام المعتقل بسبب اعتقاله أو إحضاره أمام قاض. وقد أدت هذه السياسات وظروف الأسرى البائسة إلى تحركات وإضرابات متكررة عن الطعام منذ عام 1967، وقد استشهد نتيجة ذلك عشرات الأسرى.
التعذيب الوحشي
يواجه الأسرى الفلسطينيون يومياً أقسى أنواع التعذيب والاعتداءات المتعددة منذ لحظة اعتقالهم وأثناء خضوعهم للاستجواب والتحقيق، ويمكن الجزم بأن (80)% من مجمل المعتقلين تعرضوا للتعذيب القاسي والإساءة من قبل المحققين والجيش الإسرائيلي، وأن الاعتداء على الأسرى داخل السجون وفرض عقوبات قاسية عليهم قد تصاعدا مع تفشي وتفاقم العنصرية الإسرائيلية، ولهذا ارتفعت وتيرة عمليات العنف تجاه المعتقلين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية؛ إذ جرى الاعتداء على المعتقلين باستخدام قنابل الغاز والقنابل الصوتية والحارقة. من المهم الإشارة إلى أن سنوات الانتفاضة الأولى التي انطلقت عام 1987، وسنوات الانتفاضة الثانية التي انطلقت عام 2000، كانت من أصعب المراحل التاريخية التي تعرض فيها الشعب الفلسطيني لعمليات اعتقال عشوائية شملت الآلاف من أبنائه وبناته بغرض الحد من الفعاليات الشعبية واجتراح سبل لمواجهة الجلاد والمحتل الإسرائيلي. وقد قدر عدد حالات الاعتقال اليومية التي حدثت في المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية بين عشر حالات وثلاثين حالة اعتقال يومياً، وهي نسبة عالية جداً مقارنة بالسنوات التي سبقت اندلاع الانتفاضتين.
يلحظ المتابع أن السجون تحقق هدفين للمحتل الصهيوني، فهي عبارة عن عقاب جماعي لأهالي الأسرى عبر منع زيارتهم الدورية، وعقاب فردي من خلال استخدام العنف والعزل للأسرى في الزنازين ومراكز التوقيف؛ وبهذا ستبقى معركة الأمعاء الخاوية ضد السجان والمحتل الإسرائيلي عنوان المعركة المفتوحة والمستمرة منذ عام 1967، ولهذا يجب الإسراع إلى تغييب التناقضات الثانوية في الساحة الفلسطينية والحفاظ على الوحدة الوطنية التي ترسَّخت خلال هبَّة الأقصى الرمضانية، والذهاب بعد ذلك بخطاب جامع لتدويل قضية الأسرى، ومن شأن ذلك أن يؤسس لمقدمات تدين دولة الاحتلال الصهيوني ومحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة، وقد يعزز هذا التوجه امتلاك الشباب الفلسطيني لناصية العلم والمعرفة، وفضح سياسات المحتل الصهيونية الفاشية إزاء الشعب الفلسطيني؛ عبر استخدام "السلطة الخامسة" وهو مصطلح أطلقته أخيراً؛ وأتمنى تعميمه ليصبح وسماً للدلالة على استخدام الشباب الفلسطيني ومناصري الشعب الفلسطيني لوسائل "السوشيال ميديا" خلال هبة الأقصى، استطاعوا خلالها دحض الرواية الصهيونية وكشف جرائم المحتل، من هدم وتهجير وتطهير عرقي وقتل واعتقال للفلسطينيين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.