هل الحب سعيٌ أم قضاء وقدر؟

تم النشر: 2021/07/07 الساعة 13:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/07 الساعة 13:04 بتوقيت غرينتش
اختيار الشريك سعي أم قضاء وقدر؟/ Istock

الحبُّ هو المحرك الأساسي لعلاقات البشر، الشعور المعقد الذي يتفاوت الناس حول تفسيره، ولا تجتمع معاجم المحبين والشعراء والكُّتاب على تعريفٍ واحدٍ جامعٍ له. وصفةٌ عجيبة لا يعرفها كل أحد، ولا يشعر به إلا من ذاق مُرَّه قبل حلاوته، واحترق بنيرانه ولا يتمنى الخلاص منها، وينتفض قلبه ويلتوي عند ذكر من يحب، ويتلعثم لسانه ويهذي عقله وترتجف جوارحه.

هل الحب سعىٌ أم قدرٌ؟

ربما لو كان السؤال عن شيء آخر لكان أيسر، فتعقيد الحب وسيولته بين الناس يجعله صعب القياس والتعريف والتحليل، فالبعض يراه كالمطر، رزقاً ينزل على قلوب أصحابه فيرويها بلا ترتيبٍ أو توقيتٍ، والبعض يراه فعلاً بشريّاً محكوماً بإرادةٍ حرةٍ، واختيارٍ شخصيٍّ، لا دخل فيه للقدر ولا العشوائية. لكن أي الفريقين أحق؟

في الحقيقة إنني أميل بطبعي إلى الوسطية، هذا منطقي وفلسفتي التي أؤمن بها ونزل بها هذا الدين؛ لذا فأرى-وكلُّ له رأيٌ يركن إليه- أن الحبَّ مزيج بين الحالين، فلمَ لا يكون وسطيةً بين التسيير الإلهي حيث الحدود البشريَّة لا حول لها ولا قوة أن تتعدَّى قدرة الله تعالى وإرادته ومشيئته في ترتيب واختيار من نحب، وبين التخيير الآدمي المُعزَّز بالعقل والعاطفة، والتكليف والبيان، والقدرة على القياس والموازنة، ومعرفة الخير والشرِّ والاختيار بينهما، ويمنطقه ويعززه الإلمام بفقه الحبِّ وارتباطه بالزواج قبل أن يأخذ المرء الخطوة التالية.

ففي الأولى: يصبح الحبُّ وليد القدر، شعلته الفرصة والمصادفة، وتدبير الرب المطلق، متعلَّقاً بالرزق الذي يجلب الشخص المناسب في الوقت المناسب وفي المكان المناسب لتتلاقى الأنفس على غير عادة، وتتآلف الخيوط بينها، ثم تنشأ عاطفةٌ سريعة تولِّد السعادة والسرور في قلوب المتحابين دون أدنى جهدٍ منهما أو تعبٍ.

أما الثانية: فهو قرارٌ ذاتيٌّ واختيارٌ بشريٌّ، يتعلَّق بسعي الإنسان وإرادته عند نقطةٍ ما وفي وقتٍ معينٍ دون سيطرة القدر المطلق وتسييره، إلى اختيار هذا الشخص أو ذاك، والذي بدوره يتشابه في بعض أو معظم الصفات التي يتصف بها الآخر، والتي على إثرها يبادر كلا الطرفين إلى مزيدٍ من التعارف والتآلف، وينتهي الأمر بظهور بوادر القبول والارتياح النفسي والشعور بالتوافق.

جدلية الحبِّ والزواج

دائمًا ما يخلط الناس بين الحب والزواج، بوضعهما في مرآةٍ ثابتةٍ لا يتم الآخر إلا بحدوث الأول بشكلٍ وتوقيتٍ مثاليٍّين، وكأن الحبَّ تميمةٌ تسقط على المتزوجين في ليلة العرس وهما نائمان، فيصحوان ليجدا شعاع الحب يخرج من قلبيهما ويشعل البيت حرارةً ولوعةً، غير منتبهين أن الزواج كالبيت؛ طوابق ودرجات بعضها فوق بعض، ربما يكون الحبُّ عموداً أساسياً في بنائه، ولكنه ليس القالب الوحيد المتوقف عليه البناء، ولا يتأتى بلوغه إلا بعد عيش الحياة بحلاوتها ومرارتها.

إنما الحقيقة أن اللبنات الأخرى لا تقل أهميةً عن الحب، بل هي أشياء من شأنها نجاح عملية الزواج، فقد تكفي الألفة المودة والرحمة لقيام أسرةٍ سويةٍ تحت سقفٍ واحدٍ، وإن لم يتأجَّج الحب في البداية بالصورة التي يتمناها كل إنسان، وعلى إثرها ينشأ الحب- أو لا- بالتقادم. والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة فيها ما يكفي من القوة لتعزيز العلاقة وإثرائها، والشعور بالسكن والارتياح يجمِّل حياة الزوجين ويضفي عليها طابعاً خاصاً من الراحة والترابط والسكينة.

وأشدُّ ما وقع بنا من البلاء هو تعميم الصورة الهلامية التي صدَّرتها لنا الأعمال الفنية والسينمائية والأغاني والأشعار عن الحبِّ كامل الدسم، والتي زرعت في عقول الناس صورة مثالية عن حياة العاشقين وعلاقتهما السامية التي لا يشوبها شائبة. فانقلبت حياة الناس رأساً على عقب، وامتلأت محاكم الأسرة بآلاف القضايا، بعد أن أصبح الطلاق خياراً بديهياً مريحاً لدى الجميع، تنتهي به من كانت في وقت سابق قصص حب أسطورية قبل الزواج، وربما قد شهد عليها الأهل والأصحاب. فالناس بطبيعتها تصور كل المشاعر اللطيفة التي تمر بها على أنها حب، سواء كانت إعجاباً ظاهريّاً أو ميلاً قلبيّاً أو تعوداً على وجود شخصٍ ما والحديث معه أو في أسوأ الأحوال تعلُّقاً مرضيّاً به لدرجة تستحل التملك والعبودية، وكلها مشاعر في جملتها لا علاقة لها بالحب حتى وإن كان بعضها مقدمات أساسية له.

والذي يعزِّز ذلك تغيُّر ظروف المحبَّين- مع اختلاف الدرجة والوعي- بعد الانتقال إلى الحياة الواقعيَّة التي تنسلخ منها المثاليات وتغزوها المظاهر الاعتياديَّة، ليطَّلع كلا الحبيبين على حياة بعضهما النَّمطيَّة المعتادة دون تزيينٍ أو ترتيبٍ عالِ المستوى والأداء، فيُظهر كلُّ فردٍ منهما مساوئه وأخطاءه -التي لم تظهر من قبل في بداية العلاقة- بطبيعتها البشرية، دونما حرصٍ على المثاليَّة والإفراط في تحسين الصورة الخارجيَّة التي لا تظهر عادةً داخل المنزل، فتنكشف الصفات المخفية والتفاصيل البسيطة التي لم يكن يراها كل حبيبٍ في حبيبه، فيحلُّ عند بعض المحبِّين قرارٌ جديدٌ يُنهي حالة الحبِّ المزعومة التي اتخذها سابقًا بقرارِ حبٍّ أبديٍّ، أو ربما العكس؛ يزيد ذلك جرعة الحب في قلبيهما ودرجة التمسك بينهما.

وفي الحالتين الأمر متوقف على حجم التنازلات التي يتخذانها معاً، وقدرتهما على توجيه النفس وتعويدها على بعض الاختلافات- التي ربما لم تكن خياراً مطروحاً في السابق- فيكملان حياتهما بالشكل الطبيعي.

وعلى هذا الأساس، ففقه الزواج ليس بالأمر الهيِّن، وإنما هو ضرورةٌ حتميةٌ يجب الرجوع إليها قبل الشروع فيه. واختيار شريك الحياة خطوةٌ تشترط الكثير والكثير من التريُّث والاحتكام للعقل قبل القلب، وتجنب العادات والتقاليد المجتمعية البالية في اختيار الزوج أو الزوجة، فلا يكون المال أو المنصب أو المجال الدراسي هي الشغل الشاغل أو المتحكم الرئيسي في عملية الزواج، وعلى العكس يتم التغافل عن أهم السمات الأساسية: "كالدين والأخلاق"، و"التوافق النفسي والفكري"، "وانعدام الاغتراب في النفس برفقة الشريك الآخر". فليت الآباء والأمهات يتفهمون تلك القوالب التي يضعون أبناءهم داخلها، أو يختارها الشريكان عن جهلٍ، فتصير جحيماً مستعراً فيما بعد.

في الختام، عرَّف أحدهم الحبَّ، فقال: "هو أن ترى في أحدهم أشد الأسرار ظلمةً، وتقبلها كأنها الطيب الحسن".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالرحمن القلاوي
كاتب ومدون
كاتب ومدون في عدة مواقع ومنصات إلكترونية. مواليد محافظة البحيرة - مصر فبراير/شباط ١٩٩١م، وحاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة القاهرة ٢٠١٩م.
تحميل المزيد