بين تداول السلطة والخوف من تأميم الحراك.. إلى أين تذهب الجزائر؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/07/07 الساعة 09:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/07 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش
تبون أثناء استقباله لعبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم

تسعى إدارة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إلى تأسيس نظام جديد يقوم على التداول السلمي على السلطة، ويضمن الحقوق والحريات ويؤسس لآليات التوزيع العادل للثروة في ظل مسار انتخابي يصطدم بغياب طبقة سياسية نشطة ومؤسسات مجتمع مدني قادرة على إعادة هيكلة المجتمع، مما أدى إلى انتشار شعور جزائري جمعيّ باستمرار الوضع القائم على ما هو عليه. وهذا ما أفرزته مخرجات الانتخابات التشريعية الأخيرة والاستفتاء الدستوري في خريف 2020. ارتفاع نسبة المقاطعة إلى ما يقارب 76% ونسبة المشاركة بمعدل 23% في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة يحمل دلالات سياسية مهمة، على رأسها تزايد حالة الإحباط في أوساط الجزائريين وفقدانهم الأمل في إمكانية تحقيق تغيير حقيقي عبر الآليات التقليدية، والشكوك التي تحوم بشأن نزاهة الانتخابات ومصداقية المنتخبين، فقدان الثقة في الطبقة السياسية خصوصاً والإعلام والنخب عموماً هو ما يدفع لعدم ضمان مسار ديمقراطي نزيه وواقعي يبعث بالأمل في نفسية المواطن.

الثقة بين السلطة والمواطن

يعود غياب الثقة بين السلطة والمواطن في الجزائر بالأساس لغياب مشروع سياسي بديل حقيقي يحمل رؤية استراتيجية واضحة لا تتوقف فقط عند الدعوة للمقاطعة بل تتجاوزها لوضع خارطة طريق واضحة مع السلطة تسعى لتحقيق أهداف معينة وفق مؤشرات أداء دقيقة، لا تكتفي فيها قوى التغيير البراغماتية بالمقاطعة ويسعى فيها النظام لهيكلة نفسه بسبب الواقع الجديد الذي فرضته ديناميكية الحراك. تبني سياسة الهروب للأمام وعدم الاعتراف بالأخطاء المرتكبة من طرف الأحزاب التقليدية وغياب مراجعات شجاعة للمواقف قد زاد في تعقيد الوضع في ظل ‏تصاعد درجة الاحتقان والعزوف الانتخابي. 

عندها يبقى حراك فبراير 2019، انتخابات "12 ديسمبر" 2019، وانتخابات "12 يونيو" 2021، فرصة لإدارة الرئيس عبدالمجيد تبون لإحداث قطيعة حقيقية مع الماضي والذهاب نحو الجزائر الجديدة باتخاذ إجراءات شجاعة لاستعادة ثقة المواطنين، التي تنحصر في مواصلة محاربة الفساد ومحاكمة ما تسمى "العصابة" وشبكاتها الأوليغارشية، والسير على نهج  اليد الممدودة أمام القوى السياسية المعارضة المعتدلة في الشارع. 

حراك "22 فبراير" كسر جدار الخوف الذي أجبر الجزائريين على التقاعد السياسي لمدة تقارب ثلاثة عقود كاملة وحوّلهم لمجرد متفرجين على مأساة الجزائر التي فقدت الكثير من مواردها البشرية والمادية بسبب "العشرية السوداء" وما تلتها من سنوات الفساد والانسداد (1992-2019). استطاع الحراك عبر سلميته أن يؤسس لبداية مرحلة جديدة ويبعث الأمل في إحداث انتقال سياسي واقتصادي حقيقي، فشكّل ورقة ضغط رابحة في يد الجيش الذي استطاع أن يحيد قوى الفساد التي عبثت بالبلاد، وتميز الحراك بالالتحام غير المسبوق بين المتظاهرين المطالبين بالتغيير ومؤسسة الجيش. 

غير أن الحراك كشف كذلك عن عجز الطبقة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني عن تأطير الأجيال الجديدة بسبب انعدام الثقة فيها، فهي بالنسبة للكثيرين متورطة مع السلطة المنحلة، قد تبتعد عن سيطرتها شكلاً، غير أنها وفي معظمها مرتبطة بها مضموناً ومستفيدة منها. تلك العلاقة الزبونية أعاقت قدرتها على التجنيد والحشد وعلى تطوير دعم شعبي واسع لها، وأفسح المجال واسعاً لانتشار خطاب شعبوي موازٍ غير منظم يشكك في شرعية السلطة والمعارضة معاً.

ماذا تريد المعارضة؟ ومن هي؟ 

كانت تلقّب المعارضة بالـ"كاشير" (Sausage) بسبب هشاشتها وموالاتها العمياء لمنظومة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، حيث كان قادتها بين مقربين ومحظيين. هذه المرة اختار قادة الأحزاب نهج المعارضة البنّاءة، اعتمدت خيار الصندوق، واصفين أصحاب المرحلة الانتقالية بالمعرقلين والرافضين للمسار السلمي للتداول على السلطة في الجزائر. 

أفرزت الانتخابات التشريعية الأخيرة معارضة سياسية معتدلة، والتي سوف تظهر بنية وحجم القوى السياسية الجديدة التي سوف تكوّن كياناً للتحالفات بين الأحزاب الصغيرة والقوائم الحرة التي سوف تلعب دوراً بارزاً في تشكيل حكومة الوزير الأول المعيّن السيد أيمن عبدالرحيم. مع احتمال تكوين ائتلاف التيار المحافظ (وطني – إسلامي)، دون حركة "مجتمع السلم" داخل الغرفة السفلى المنتخبة لمنح الثقة للحكومة الجديدة، متجنبة النموذج التونسي. وهذا ما يريده الرئيس السيد عبدالمجيد تبون بغية إنشاء حزب سياسي على غرار حزب التجمع الوطني في عهد الرئيس اليامين زروال عام 1997، علما أن الرئيس عبدالمجيد تبون لا ينوي أن يتقدم إلى ولاية رئاسية ثانية في عام 2024.

ليس من المعقول أن يحكم مسبقاً على أن الاستحقاق الانتخابي بأنه محاولة للنظام السابق للعودة بقوة خاصة بعد زلزال حراك فبراير. إذ تبقى تلك الرؤية التشاؤمية المثيرة لليأس، كما يعتقد التيار المعرقل والرافض للمسار الانتخابي، قادرة على تعطيل الكثير من المشاريع الدافعة لجزائر قوية. لذلك لا يمكن إلقاء اللوم على النظام كون الأخير لا يسلّم أبداَ مفاتيح الحكم بالسذاجة التي يطالب بها المغرورون سواء في الداخل أو في الخارج. وعي الناخب الذي طالما غيّبت كلمته لثلاثة عقود كاملة بحجة الشرعية الثورية تارة و"محاربة" الإرهاب تارة أخرى، اليوم الناخب فهم القصة أو كما يقول: "فهمنا الحكاية"!

إن الناخب في نهاية المطاف هو ابن بيئته الاجتماعية والسياسية، يتعامل مع واقعه بمنطق المصلحة وحب الوطن حتى على الأحزاب السياسية سواء منها "الخبزية" أو التي لا تزال لا تفرق بين العمل الخيري والنضال السياسي من أجل الوصول إلى السلطة عن طريق الصندوق. يبقى الصندوق هو الوحيد الذي يفصل بين الناخب والرئيس والنائب ورئيس البلدية.

إلا أنّ المسؤولية الأكبر تتحملها تلك الأحزاب والنّخب وما يعرف بجمعيات المجتمع المدني بسبب غطرستها ونظرتها المتعالية للمجتمع من جهة ومماطلتها وولائها مع السلطة من جهة ثانية بلعب دورها لنشر وعي حقيقة معنى فكرة النضال الحزبي والمجتمع المدني ومفهوم المواطنة عموماً. 

في ذات الوقت، يبقى حق الانتخاب الدستوري للناخب كأداة ردع في يده على من ينتخبهم، الذين يجب عليهم أن يعوا أن تمثيل الشعب أو خدمته في إدارة الشأن العام تكليف وليس "بزنس"، فمنصب المشرع ليس وظيفة كما اعتاد عليه المشرع الجزائري منذ أوّل مجلس شعبي وطني منتخب في عام 1976، إنما لمراقبة أعمال وتصرفات الحكومة وتقديم مشاريع قوانين تصب في صالح المواطن وخدمة للوطن. 

الخوف من الاستمرارية و"تأميم" الحراك 

الديناميكية التي يشهدها مسار التداول السلمي على السلطة في الجزائر تعد فرصة أخرى بعد تجربة الجمهورية الثانية ما بين (1989-1991) التي تم إجهاضها من قبل جنرالات الانقلاب وجنودهم المدنيين من التيار العلماني المتعصب الذين كانوا يطالبون بحكم العسكر.

استمرار الطابع الزبوني كناظم لعلاقات الطبقة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بالسلطة شكل عاملاً محدداً في ديمومة نمط الحكم دون الحاجة للبحث عن بدائل ديمقراطية جديدة. فعدم قدرة النخب الجزائرية على الفعل وعجزها عن خلق ديناميكيات جديدة داخل المجتمع أمام هيمنة الخطاب التقليدي دفعها للاستعانة بمؤسسة الجيش والتحالف معها مرة بدعوى منع اكتساح التيار الإسلامي للساحة كما حدث عام 1992 بالدعوة لتوقيف مسار الانتخابات من طرف لجنة إنقاذ الجزائر، ومرة أخرى بدعوى فك الارتباط مع الهيمنة الفرنسية.

خلاصة المشهد اليوم تعيش الجزائر واقعاً اجتمعت فيه لحظتا وهم الانتصار ومصيدة الهزيمة، وهو ما يشكل خطراً حقيقياً على مستقبل المجتمع والدولة معاً، لأنهما يعملان وبشكل تكاملي على خلق وضع متصور يكون في أغلب الأحيان مضللاً. يعتقد فيه أحد أطرافه أنه حقق انتصاراً يسمح له بفرض أجندته وقواعد لعبة تناسبه، وهو ما يزيد في عزلته (القوى الإسلامية المعارضة)، بينما يعتقد الطرف الآخر أنه خسر رهانه وأصبح غير قادر على فرض رؤيته ليستسلم لليأس ويفقد الأمل في التغيير وفق الآليات القائمة (قوى التغيير).

ومع ذلك، فإن إمكانية العودة للمربع الأول تبدو مستحيلة؛ لأن ذلك سيدفع بمواصلة دوامة التصعيد والتي تشكل فخاً إذا سقطت فيه الأحزاب المحافظة المعتدلة التي اختارت مبدأ المعارضة البناءة على غرار حزب حركة "مجتمع السلم"، على عكس الأحزاب العلمانية واليسارية التي اختارت منطق الاتجاه المعرقل غير العقلاني الذي قد يجعلها أمام خيارات صعبة تجاه السلطة من جهة والناخب من جهة ثانية. 

كما يجب على الجميع، سلطة ومعارضة، أن يقتنع بأن الإخلاص والوطنية لا حل دونهما، لكن الحماس والاندفاع غير المحسوب الذي يهمل التخطيط ولا يأخذ بالأسباب ولا يفكر في علاقات القوة القائمة وارتباطاتها بمعطيات الداخل ومتغيرات الخارج، كثيراً ما أنتج فشلاً ذريعاً لمشاريع التغيير التي تحولت لحالات من الفوضى ولدت الكثير من الخيبات وفقدان الأمل في مستقبل أفضل. 

الاحتكام إلى نتائج عمليات فرز أصوات الناخبين والرهان على شفافية الصناديق غير كافٍ وحده لإحداث التغيير الحقيقي، لأنه لا يمكن أن تكون ديمقراطية بدون حرية، وحرية بدون معرفة وثقافة سياسية ناضجة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالنور تومي
كاتب وباحث جزائري
صحفي متخصص في شؤون دراسات شمال إفريقيا في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام). حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تولوز في فرنسا. له مقالات تنشر في صحيفة ديلي صباح اليومية التي تصدر باللغة الإنجليزية في تركيا. عمل محاضراً في قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في كلية بورتلاند كوميونيتي. وفي الوقت نفسه كان عضواً في مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة ولاية بورتلاند.
تحميل المزيد