من خلال ما وقع في المعركة الأخيرة "سيف القدس"، من مقاومة الفلسطينيين الذين يرفضون الانصياع ويقاومون بلا هوادة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، نلاحظ أن فلسطينيي الداخل غير منكسرين، على عكسنا نحن عرب الخارج. فالفاعل، أي الإنسان العربي هناك قوي متماسك. فهذا ما عبر عنه أيضاً المفكر المصري عبدالوهاب المسيري، من خلال ما سماه النموذج الإدراكي الانهزامي الذي هيمن على الإنسان العربي وحجب عنه رؤية مؤشرات النصر وركز ناظريه على مؤشرات الهزيمة.
فسؤال الهزيمة: "لماذا هُزم العرب؟" هو الذي ظل يطارد ذهن المسيري بعد هزيمة 67، فكان الجواب هو أننا لم نعرف عدونا، لأنه لكي نفهم العدو الصهيوني بضعفه وقوته يجب أن نفهمه علمياً وليس بالأوهام والخرافات، وهذا ما دفع عبدالوهاب المسيري لدراسة الصهيونية واليهود واليهودية بنموذج تفسيري جديد بطريقة الباحث العلمي، حيث ربط الصهيونية بالحضارة الغربية وبجذورها الحضارية التي نشأت فيها، وهو بهذا فرّق وميّز بين اليهودية والصهيونية.
كان عبدالوهاب المسيري يدافع عن القضية الفلسطينية بسلاح المعرفة والفكر، ونادى بضرورة بلورة خطاب معرفي للقضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي بعيداً عن الخرافات والخطابات التقليدية، فقد استطاع من خلال الموسوعة أن يعرض لنظرة جديدة موسوعية موضوعية فكرية علمية للظاهرة اليهودية المعاصرة بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام، والعلمانية بصورة أعم، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من إعادة قراءة مفهوم النماذج التفسيرية[1].
وبهذا يمكن القول إن "المسيري" أسهم إسهاماً كبيراً في تحفيز العقل العربي على البحث وعلى فهم الخصم الصهيوني، وأيضاً قدم فلسفة فريدة في فهم الإنسان، تبلغ قيمتها اليوم من خلال قدرتها على المساهمة في تحليل أزمة إنساننا العربي المسلم خاصة والإنسان المعاصر عامة.[2] فقد شكّل المفكر الراحل حالة متميزة وفريدة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية.[3]
حياته وفكره
كان مولد عبدالوهاب المسيري في دمنهور عاصمة البحيرة بجمهورية مصر العربية سنة 1938م، من أسرة برجوازية غنية ومثقفة، فهو كان يشير إلى أن أسرته كانت تنتمي إلى ما يمكن تسميته "البرجوازية الريفية"، وهي برجوازية في دخلها وفي فرديتها، ولكنها كانت تعيش خارج الإسكندرية والقاهرة، أي تعيش في الريف، فلن تتأثر بعناصر التغريب التي كانت تضرب بأطنابها في البرجوازية الحضارية وفيما كان يسمى الأرستقراطية الإقطاعية [4].
بعد إنهاء تعليمه الابتدائي والثانوي التحق عام 1955م بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية؛ حيث نال فيها البكالوريوس، وفي عام 1964 حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنهى درجة الدكتوراه في جامعة ريتجرز بمدينة نيوبروزويك بولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة سنة 1969.
بدأ الدكتور المسيري حياته المهنية معيداً في جامعة الإسكندرية فور تخرجه، وإثر عودته من الولايات المتحدة قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها: جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية وجامعة الكويت. كما شغل عدة وظائف ومسؤوليات، أهمها عمله كخبير بالشؤون الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام سنة 1971م. وصدرت له أول طبعة لموسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية سنة 1975.
أغنى المسيري المكتبة العربية بعشرات المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، تنوعت بين الموسوعات والدراسات والمقالات، ولعل أبرزها "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد" التي صدرت سنة 1999م في ثمانية أجزاء، ويظهر أنه استل عن الموسوعة الأم عدداً من الإصدارات، وطفق ينشرها مستقلة عن الموسوعة؛ لتعميم الفائدة، ومن كتبه البارزة أيضاً: "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، و"الفردوس الأرضي"، و"الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان". بالإضافة إلى عدد من الإسهامات الأدبية والفكرية والنقدية وقصص الأطفال.
لقد امتاز "المسيري" برؤيته التحليلية والتفكيكية والتركيبية الاستثنائية، لمجموعة من الظواهر والمشكلات التي واجهت عصرنا كالحداثة وما بعد الحداثة والصهيونية والعلمانية، فقد كانت كل دراساته تنطلق من إيمانه بأن ثمة فارقاً جوهرياً كيفياً بين عالم الإنسان المركب المحفوف بالأسرار، وعالم الطبيعة (والأشياء والمادة)، وأن الحيّز الإنساني مختلف عن الحيّز الطبيعي المادي، مستقل عنه، وأن الإنسان فيه من الخصائص ما يجعله قادراً على تجاوز الطبيعة وتجاوز قوانينها الحتمية، وصولاً إلى رحابة الإنسانية وتركيبتها، وهذه هي الرحلة التي بدأها "المسيري" من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان.
وتعد رحلته الفكرية سيرة حياة إنسان مسلم تعرض للقلق الفكري الذي صاحب حالة التراجع الحضاري لأمته في أوج وعنفوان وزخرف النموذج الغربي الغازي، ولقد أنتج هذا القلق مجموعة من الأسئلة والإجابات الفلسفية والعملية المتعلقة بالنهوض والتقدم، شكلت معالم مشروعه الفكري كمثقف عربي مسلم يبحث عن طريق جديد لأمته يحقق مشروعها الحضاري المستقل، وهو ما عبرت عنه همومه الفكرية التي تركزت في: الصهيونية كاستعمار استيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية، وفزعه الصادق من الاستهلاكية والعلمانية الشاملة وآثارها المدمرة على مصير الإنسان، وانشغاله الفكري بالتحيزات المعرفية الغربية.[5]
في نقده وتفكيكه للصهيونية
لقد بدأ "المسيري" دراسته لليهود والصهيونية، وللصراع العربي الإسرائيلي، من خلال رؤية معرفية وخريطة إدراكية تنبع من معجمنا الحضاري، وذلك استناداً إلى البحث العلمي والتدقيق والتحقيق، وليس الارتكان والاطمئنان إلى البديهيات، والاستقرار إلى المعارف الموروثة، والخرافات والفكر المؤامراتي، فالمسيري كان دائما يقول: "إن نظرية المؤامرة ليست بنظرية، وإنما هي إشاعة، ومحاولة للهروب من التفكير والهروب من الاجتهاد، فحينما يقول الإنسان إن اليهود مسؤولون عن كل شيء فهو يعفي نفسه من مسؤولية البحث والتفكير، ومسؤولية تزويد القارئ العربي بخريطة تفصيلية لما يحدث".
هذا وبخلاف معظم الباحثين الذين قاموا بتصنيف الصهيونية باعتبارها حركة يهودية، وإلى اعتبار أن جذور الرؤية الصهيونية للعالم يهودية، وذلك استناداً إلى الادعاءات والتصريحات الصهيونية والغربية. انطلق عبدالوهاب المسيري في دراسته للظاهرة الصهيونية من داخل بعدها التاريخي والاجتماعي والثقافي، باعتبارها ظاهرة غربية استعمارية استيطانية إحلالية ذات جذور غربية ثم أضيفت لها ديباجات يهودية، وأن الصهيونية ليست مجرد انحراف عن الحضارة الغربية الحديثة، كما يحلو للبعض القول، وإنما هي إفراز عضوي لهذه الحضارة ولما سماه المسيري بالحداثة الداروينية، أي الحداثة التي ترمي إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية توظف لصالح الأقوى.[6]
ولتوضيح ذلك بأن إسرائيل ليست ظاهرة يهودية وإنما ظاهرة استعمارية استيطانية، قام "المسيري" بعقد مقارنة بين الجيبين الاستيطانيين في فلسطين وجنوب إفريقيا. فكلا الجيبان الاستيطانيان قد خُلّقا كجزء من محاولة الغرب الصناعي حل مشاكله، خاصة مشكل الفائض البشري، عن طريق تصديرها. فالمسألة اليهودية- في تصورهم- كان يمكن حلها عن طريق تصدير اليهود للشرق مثلما يصدِّرون سلعهم البائرة، وعن طريق سرقة الأراضي العربية من الفلسطينيين مثلما تسرق المواد الخام من بقية العرب. والوضع نفسه قد تم في جنوب إفريقيا، حيث تم تصدير قطاعات من الطبقة العاملة الهولندية ثم البريطانية ثم الغربية المتعطلة، وسُرقت الأراضي من الأفارقة لتوطينهم فيها. وكان هذا هو الإطار الذي تم من خلاله حل مسألة أوروبا اليهودية: تصديرها إلى العالم العربي، وتأسيس دولة وظيفية، استيطانية إحلالية، بحيث تقوم الجماعة الوظيفية اليهودية التي فقدت وظيفتها بوظيفة جديدة، القتال دفاعاً عن المصالح الغربية بدلاً من التجارة والربا [7].
ولقد كان المسيري في دراسته للصراع العربي الإسرائيلي، يرصد كلاً من الفاعل العربي والصهيوني في تفاعلهما ومواجهتهما اليومية ودوافعهما الداخلية، هذا ما جعله من خلال مقال كتبه سنة 1984، يتنبأ بوقوع الانتفاضة قبل اندلاعها بنحو أربعة أعوام[8]. وحين اندلعت الانتفاضة الأولى، أعطاها المسيري اهتماماً خاصاً، الأمر الذي دفعه للتوقف عن العمل في الموسوعة لينجز كتابه "الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية: دراسة في الإدراك والكرامة" الذي بلور فيه "نموذج الانتفاضة" كنموذج تحليلي، حيث ميّزها عن الثورة، فهو كان يبدي إعجاباً كبيراً بالشعب الفلسطيني ومقدرته على المقاومة رغم الحصار، وأنه شعب مقاوم لا يكلّ ولا يملّ في الدفاع عن أرضه.
كيف تنبأ عبدالوهاب المسيري بزوال إسرائيل؟
لقد كان المفكر عبدالوهاب المسيري يؤمن إيماناً جوانياً بتحرير فلسطين وأن تحريرها قريب، وذلك راجع إلى رؤيته الاستشرافية لمستقبل القضية الفلسطينية، والواقع الإسرائيلي، من خلال دراسته للمجتمع الإسرائيلي، ووعيه المعرفي بطبيعة المشروع الصهيوني وإدراكه العلمي لآليات اشتغاله ونفسيته وسوسيولوجيا استيطانه.
وبهذا تنبأ عبدالوهاب المسيري بانهيار إسرائيل من الداخل، وذلك راجع للأزمة التي تمر منها الدولة الصهيونية والتي تحددها مجموعة من العوامل نذكر منها:
- ما قاله الدكتور المسيري: "على عكس ما يتصور الكثيرون فإن هاجس نهاية الدولة اليهودية يعشش في الوجدان الإسرائيلي، وهم محقون في ذلك، إذ يجب ألا ننسى أن كل الجيوب الاستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية- الجيب الاستيطاني الفرنسي في الجزائر- دولة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا) قد لاقت نفس المصير، أي الاختفاء"[9].
- الإسرائيليون يشعرون أن الصهيونية لم تعُد هي الخريطة التي تهديهم سواء السبيل، ففلسطين التي كان يشار إليها أنها "أرض بلا شعب" ظهر أنها فيها شعب، وأنه يقاوم المحتلين بلا هوادة، ولا يكلّ ولا يتعب من المقاومة[10].
– ويتضح أيضاً الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين في ظهور موضوع "الخوف من الإنجاب" في القصص الإسرائيلية. فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما وسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني، وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركز الإسرائيليين في المدن- علمنة المجتمع الإسرائيلي- التوجه نحو اللذة… إلخ).
لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ، باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة، مهددة دائماً بما يسمونه المشكلة الديموغرافية، أي تزايد عدد العرب وتراجع عدد المستوطنين اليهود[11].
– هذا بالإضافة إلى انصراف الشباب من المستوطنين الصهاينة عن الخدمة العسكرية، بل الفرار منها. فقد أشار إسحاق مردخاي (أحد وزراء الدفاع السابقين) إلى أنه قد طرأ انخفاض حاد على مستوى الاندفاع والرغبة القتالية في صفوف الشباب الإسرائيلي[12]، فهذا يدل على أن المستوطنين يبحثون عن الراحة، واللذة، والمغريات. فقد كان "المسيري" يرى الإسرائيليين على أنهم صهاينة استيطانيون قالباً، أما قلباً فهم مرتزقة تماماً، باحثون عن الحراك الاجتماعي بأي ثمن وفي أي مكان، حتى لو كان أرض الميعاد، ومن ثم جاؤوا إلى صهيون لا بسبب قداستها وإنما بسبب أسعارها والفرص المتاحة لهم[13].
فهذه مجرد أمثلة من بين الأسباب الكثيرة التي تشكل مظاهر أزمة الدولة الصهيونية، فالمسيري كان دائماً ينظر إلى الدولة الصهيونية "المستقلة" على أنها لا يمكن أن توفر لنفسها البقاء والاستمرار، ولا أن توفر لمواطنيها أي مستوى معيشي مرتفع إلاّ من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأمريكي المستمر، ما دامت تقوم بدور المدافع عن المصالح الأمريكية، أي أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية، تُعرّف في ضوء الوظيفة الموكلة لها[14].
وختاماً نقول إن عبدالوهاب المسيري رحل تاركاً مشروعاً فكرياً يستند إلى الرؤية الحضارية المستقلة، ويتجاوز التحيزات المعرفية الغربية؛ إذ تتحدد معالم المشروع الفكري لعبدالوهاب المسيري في شق فلسفي فكري يتمثل في النزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية، ثم الشق السياسي الذي يطرح فيه علاقة الدين بالدولة من خلال تصوره حول مفهوم العلمانية (علمانية جزئية/ علمانية شاملة)، في محاولة لتقديم رؤية نقدية جديدة حاولت تجاوز المتداول في الساحة الفكرية العربية. وأخيراً الشق الاستراتيجي المتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، ومستقبل الوجود الإسرائيلي[15].
لا شك أن اشتغال المسيري على محور واحد من هذه المحاور يجعلنا نؤكد راهنية فكره والحاجة الماسة إليه، فكيف إذا كان المشروع مستوعباً المحاور الثلاثة[16].
هذا ما يجعلنا نقول إنّ العودة إلى ما راكمه المسيري من أعمال بغية النبش فيها ضرورة ملحة، تحتمها الظروف التي يعيشها الوطن العربي، والإشكالات الكبرى التي تواجه أمتنا العربية الإسلامية.
كيف لنا ألاّ ننحاز لهذا المفكر الباقعة، وهو الذي خدم القضية الفلسطينية بفكر موسوعي أكثر مما خدمها بعض من يدّعون وصلاً بها، في وقت كثر فيه المدّعون وصلاً بالقضية، في وضع يندى له الجبين. فها نحن نقولها الآن وفي ذكرى رحيله، لقد ترجل الفارس عن جواده، فمن يملك زمام الجواد ويكمل مسيرة المسيري؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.