يحدث قليلاً في المدن الكبيرة!
في مدينتي، انتشرت سُنة تقديم التعازي الحسنة، بدءاً من الصغير حتى الكبير. ما إن يعلم أحدهم عن موت فلان، حتى يسارع إلى القيام بواجب التعزية، عرفه عن قرب أو كانت العلاقة سطحية.
لكنها في زمن كورونا، فالتعزية بالحضور الشخصي قطعاً أمر سيئ، وقد يتسبب في نقل العدوى.
من المساوئ الأخرى أن التعازي أصبحت مكاناً للاستعراض بدءاً من "السفرة" التي يقدم فيها ما لذ وطاب من طعام، وزيارة النساء للكوافير والتزين، ولكن على خفيف، إلى ما يُفعل في سرادق الرجال من مظاهر فلو لم يُطرِب حفل العزاء صوت مقرئ مصري يلبس "عمة" المنشاوي أو عبدالباسط، ويقلد أحدهما- رحمهما الله- وبذا تكون قراءة القرآن (حية) على الهواء، إلى شيخ آخر واعظ ممن يمزجون العامية بالعربية ويكثرون من لوم الناس وتقريعهم، لأصبح عزاء ناقصاً لا طعم له ولا لون "ومالو مازيه" على رأي الإخوة الشوام.
يُقدم أيضاً ما لذ وطاب في السحور، علاوة على اللحم في العشاء وحليب جهينة وتمر (الدقلة) الموجود دائماً على طاولات مزيّنة خارج السرادق، ومنهم من يوزع حتى عجوة المدينة وكأنه مستعد للمناسبة (الاحتفال بالخلاص من المرحوم)، ولا يصل الفقراء والمحتاجين من هذا شيء في معظم الأحوال.
كذلك الإسراف في السرادق، والمختصون يعرفون لكل ميت قدره في الدنيا طبعاً؛ فهو ذاهب إلى رب العالمين الذي له طريقة أخرى في تقييم أقدار الناس، بذا فلكل سرادقه و"الإكسسوارات" المكملة، وبذلك بات معظم موتانا على درجة عالية من الأهمية. ولو كان ذووهم صرفوا ما صرفوه اليوم عليهم لعاشوا أفضل، وانتبهوا فـ"لو" تفتح المجال لعمل كثير من الشياطين.
أصبحت للعزاء عندنا مراسم تشبه مراسم العزاء الرئاسية. ولا بد أن يحضرها المهمون وتقدم لهم التعازي ويلحقهم الموظفون حتى لو كان العزاء في آخر الدنيا. حيث تكرس كل إمكانات المكان الذي يشغله المسؤول لنقل من أراد تقديم فروض العزاء، رغم أنه لا صلة قرابة تربطه بالمسؤول أو صهره المتوفى اللهم إلا إذا كان اختبار ولاءات، وأحياناً يكون هذا اليوم عطلة في المصلحة أو الشركة، حداداً على المرحوم.
لو كنت في قلب الحدث، المقبرة، فإنك ستضطر لمصافحة ألف رجل ينقصون قليلاً أو يزيدون، يقفون في طابور واحد، موزعين على سبعة مآتم لعشرة في مجموعات متصلة، وأحياناً يختلط الحابل بالنابل. ولو حضرت إلى المأتم في ثالث لياليه فستصافح أكثر من مئة شخص واقفين في طابور وبعضهم ظروفه الصحية لا تسمح، منهم من لا يعرف المتوفى ولم يسلم عليه في حياته، ومنهم من عافه لفقره أو حسده لغناه أو بغضه لصدقه أو كذبه، فلم يتواصل معه منذ عقد. لكنه يتقبل التعازي فيه، ويحرص على أن يكون العزاء محترماًً ولائقاً بالمرحوم، الله يرحمه ويسامحه (ويبشبش الطوبة اللي تحت دماغه). وما كان ليترحم عليه ويسامحه ويصله وهو حي يرزق. أحياناً أخرى بسبب أن زوجة فلان لا تطيق الأخرى زوجة الميت لأي سبب أو العكس.
أتوقع أن تكون مشاريع الاستثمار في صالات المناسبات الاجتماعية هي الأفضل على الإطلاق في الفترة القادمة، لربما دخلها (بازار التعازي)، وحينها "ستولع" أسعار الإيجار بالنسبة للصالات، وتصبح خرافية ليست بألفين للفقراء ولا خمسة ولا حتى أضعاف ذلك؛ لأنها ستصير هي الأخرى مستهدفة بالإيجار في التعازي، فقط هناك مشكلة لوجستية كيف سيعرفون بموعد موت الأب أو الأم.
"الراقوبة"!
هذه مقدمة لحكاية شابين ليبيين في العشرينيات ذهبا إلى "الغساندرية" للتنزه. وكعادة كثير من الليبيين يفتح المكان واحد ويصبح كـ"الراقوبة"، وهي بيضة يضعها مربي الدجاج في مكان معلوم لتبيض حولها الدجاجات الأخرى بشكل منتظم ولا يتفرق البيض فيضيع وسط القش، لأصدقائه ولغيرهم، ولا أقصد فلسفة أو أدلجة الاصطلاح، إنما كما أوضحه ببساطة!
حتى المقاهي التي يرتادانها لا يغامران بالذهاب لغيرها، وإن فعلا فإن هذا يعد فتحاً مبيناً.
صاحبانا الاثنان يخرجان مع حلول السادسة مساءً للمقهى ذاته لا يحيدان عنه قيد أنملة، يشربان فيه "معسل" بالتفاح أو البرتقال، عذراً لا أعرف كثيراً من الأنواع، كوني لم أتعاطه في حياتي ولو لمرة. يمكثان هناك حوالي الساعتين يراقبان خلق الله، يقومان بأمرين لا ثالث لهما، شرب "المعسل" وإجراء المكالمات لليبيا.
أخوالنا "الإسكندرانية" كما إخوتنا المصريين عموماً هم أيضاً يمتازون بميزتين أساسيتين، واحدة في الجينات، وهي أنهم أبناء نكتة وتعليقاتهم حاضرة، الثانية بحكم أنهم قطر سياحي لديهم فضول أهل البلد للتعاطي مع السياح، وسؤالهم، وللعلم فإن الليبيين في الإسكندرية بسبب كثرتهم لا يُعتبرون سُياحاً.
كان هناك زبائن يوميون مصريون لذلك المقهى يشربون الشيشة ويلعبون الطاولة. الأخوان الليبيان غير منتبهين لكهل يجلس يومياً بالقرب منهما يطلب (المعسل) ويبقى لساعة أو أكثر ثم يمضي لحال سبيله. هما يطلبان ليبيا يومياً، وأحدهما [يشهق] ثم يردد متحسراً "فلان" مات، لا حول ولا قوة إلا بالله، والآخر حينها يضرب كفاً بكف حتى قبل أن يستفهم بيديه عن هوية الميت فيخبره المتحدث.
يغلقان "الموبايل"، يبدآن بالبحث كل في محموله عن أقرباء وأصدقاء المتوفى، ويباشران جملة اتصالات بهدف التعزية والاعتذار عن عدم تمكنهما من حضور المأتم لكونهما موجودين في مصر لأعمال مهمة يقضيانها.
هذه الأعمال لا تزيد عن النوم في ساعة متأخرة، ثم استخدام الهاتف من أجل الطلبيات للغداء ومشاهدة التلفزيون والخروج للمقهى ذاته، ومن ثم التجول في شوارع الإسكندرية، وأخيراً ربما قضاء الأعمال التي جاءا لأجلها. يومياً يكرران الاتصال بالتناوب وتبليغ أحدهما الآخر على الميت والشروع في الاتصال بذويه للتعزية وهما لا يشعران بذاك الكهل المصري!
في أحد الأيام لم يتصلا كالعادة، ويبدو أن الحديث أخذهما، فمرّ من أمامهما الكهل المصري خارجاً ثم عاد إليهما متسائلاً: "إيه فيه إيه هو مفيش حد مات النهارده في ليبيا! يا أبنائي متنزلوا ليبيا بالمرة عشان تقوموا بواجبات العزاء بدل هذه التلفونات والمصروفات!".
والشيء بالشيء يذكر، روى لي صديق البارحة قصة في إحدى السهرات عن شخص نسميه (حفار القبور) وهو في الواقع من يقوم بدفن الموتى. حفار القبور هو صاحب نوادر، ذات مرة وهو يسجي المتوفى في قبره كان هناك شابان عليهما سمت السلفية وربما لا يعرفان عنها سوى القشور. كان هذان الشابان من ذوي الميت وأثقلا على صاحبنا هذا بتعليماتهما ونصائحهما بخصوص وضعية الميت.
التفت إليهما وترك الميت قليلاً. سألهما: يا أبنائي هل تعرفانني؟ فأجاباه: من منا في هذه المدينة لا يعرفك. قال: حسناً، وأنا أدفن الناس هنا من قبل أن يتزوج أبو كل منكما بأم كل منكما، أنا أعرفكما أيضاً وحضرت زفاف أبويكما. بالله عليكما اسألا أبويكما هل رأيا ميتاً دفنته في السابق خرج وتجوّل في شوارع المدينة؟! وقد كنا نهيل عليهم التراب فحسب، أما الآن اللّحد مكون من ثلاث قطع إسمنتية ثقيلة الوزن لا يستطيع بطل العالم الإيراني في رفع الأثقال أن يرفعها لو كتب الله له الموت في مدينتنا.
اطمئنا "ميتكم" في أمان، حتى لو بُعث من جديد في قبره سيموت ثانية، لن يقدر على نبش القبر الذي حفرته وأغلقته عليه بالإسمنت والحديد وزيّناه بكومة من التراب ووضعنا عليه الشواهد الثقيلة ورقّمناه، ولو فرضنا أنه شمشون واستطاع النفاذ من كل هذه الترتيبات الأمنية فلن تسعفه قوته- المتبقية- للنط من فوق هذا السور العالي الذي يطوّق المقبرة!
أخبرني أن هذا "الحفار للقبور" مثل رئيسه في العمل ما إن يحفر حفرة لأحد إلا وتكون كالقبور التي يتقن حفرها وردمها ذلك العامل بالمقبرة. ومع السنوات زاد عليه مديرنا تفنناً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.