في يورو 2020 الحالي تبرز إيطاليا تحت قيادة المدرب روبيرتو مانشيني بثوبها الجديد، العالم كله منبهر بما يقدمه المنتخب الإيطالي من أداء عظيم وجميل. رغم أن المنتخب الإسباني أيضاً يقدم أداء عظيماً في البطولة، إلا إن الانبهار الأكبر في الشارع الرياضي كان من نصيب أداء المنتخب الإيطالي، لأن هوية إسبانيا الكروية معروفة مسبقاً ومعتادة.
لكن ما يحدث في الكرة الإيطالية اليوم هو بمثابة تحوّل كامل، تغيير جلد كروي. كفر طليان اليوم بما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، ضربوا بمبادئ الكاتيناتشو عرض الحائط، وثاروا على كرة إيطاليا القديمة، وأعلنوا عن عهد جديد للآزوري، ونصبوا روبيرتو مانشيني ملكاً له، لكن تلك الثورة التي حدثت في الكرة الإيطالية لم تكن وليدة اليوم، خلف ذلك، هناك الكثير من الأحداث في الكواليس، سنتحدث عنها باستفاضة.
إيطاليا موسوليني والكاتيناتشو
نيرو روكو، أحد أشهر مطبقي ومدربي "الكاتيناتشو" في الخمسينات، حصل على شهرة واسعة لإتقانه الدفاع، وبدرجة أقل من هيلينو هيريرا، وصف روكو "الكاتيناتشو" قائلاً: "إن الكاتيناتشو تتمتع بالطابع القاسي للفلاحين الإيطاليين. عندما يكون الصراع الطبقي، على المرء أن يدافع عن نفسه".
هنا يتجلى بوضوح حقيقة أن "الكاتيناتشو" أتت من المجتمع الإيطالي أولاً ثم انعكس ذلك على طريقة لعبهم لكرة القدم.
يوهان كرويف، أحد أهم رواد اللعبة، سواء كان لاعباً أو مدرباً، قال إن كرة القدم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع، ومعبرة عنه وليست منفصلة عنه، أي أن كل مجتمع يؤثر في طريقة لعب من يعيشون فيه، يؤكد كرويف أيضاً في فيديو ليس شهيراً أو شائعاً، أن ما يحدث في الملعب هو انعكاس لما يحدث خارجه، في برشلونة يلعبون بطريقة هجومية عدوانية؛ لأنهم يمارسون نفس السلوك العدواني في حياتهم خارج الملعب، يمارسونه في طريقة الأكل السريعة مثلاً، وهذا يؤكد تماماً على كلام الأديب اللاتيني إدوارد غاليانو، عندما قال: "كرة القدم هي مرآة للعالم"، حيث تعكس ما يمر فيه، عن طريق مسرحية مكونة من اثنين وعشرين لاعباً وكرة ومستطيل أخضر مساحته محدودة.
يقول جيمي برينز، مؤلف كتاب la Roja: "لا يمكنك فصل كرة القدم الإسبانية عن سياستها". وهو ما يؤكد أن المجتمع مؤثر في كرة القدم.
الكاتيناتشو هي اختراع نمساوي في الأساس، لكن الطليان هم من أتقنوها؛ لأنهم لعبوها بغريزتهم، فهم يخافون من الخسارة، يفكرون ألا يخسروا، قبل أن يفكروا كيف يفوزون، ربما تأصل ذلك في جذورهم بعد البرقية التي أرسلها موسوليني للاعبي المنتخب الإيطالي قبل نهائي كأس العالم 1938 ضد المنتخب المجري المكتوب فيها "الفوز أو الموت".
إذاً طريقة اللعب الدفاعية القديمة لإيطاليا والتي جلبوا بها أمجادهم القديمة كلها، هي نابعة من هوية المجتمع في الأساس.
أريغو ساكي والثورة الأولى
"في إيطاليا نعتقد أننا نفهم كل شيء، مع ذلك ندافع بعشرة لاعبين ونهاجم بلاعب واحد فقط. كرة القدم تشبه المسرحية، لا بد أن تنتهي بشكل كامل، لكن ذلك لا يعني أن نتغاضى عن السيناريو بشكل كامل".
أريغو ساكي هو أول ثائر في ملاعب إيطاليا، أو من تمرد على قوانين "الكاتيناتشو"، ابن صانع الأحذية كان عبقري كرة قدم رغم أنه لم يمارس اللعبة في مستوى عالٍ، كان ساكي ناقماً على الطريقة التي يلعب بها الطليان كرة القدم.
يؤكد ساكي على أن هوس الطليان بالفوز جعلهم لا يفكرون في الطريقة التي يفوزون بها. لقد طور ساكي العديد من المفاهيم في كرة القدم، وكان بعقله مرحلة انتقالية في تكتيك كرة القدم عبر تاريخه، كما ذكر في كتاب "قاموس كرة القدم"، أن البعض يعتقد أن ساكي طور اللعبة على مستوى الهجوم، لا بل هو طورها في الأساس على مستوى الدفاع، وبما أن حالات اللعب في دائرة مغلقة وكل منهما يؤثر على الآخر، فتطوير ساكي للدفاع أدى لتطوير الهجوم بشكل غير مباشر، فبدلاً من أن يدافع بنظام رجل لرجل، دافع بنظام المنطقة، الخصم هو المرجعية الأخيرة، والمساحة هي المرجعية الأولى بعد الكرة، ذهنياً جعل اللاعب أفضل، بدلاً من أن يدافع في آخر عشرين متراً، فكان يلعب بتكتيك الخفاش، يتشبث بالعارضة خوفاً من استقبال هدف، يدافع هناك من أمام مرمى الخصم، المهاجم هو أول مدافع له، وقلوب دفاعه على دائرة الوسط، يلعب في وسط ملعب الخصم أكبر وقت ممكن، ربما ذلك عكس مبادئ الكرة الإيطالية، وكان ساكي محل سخرية الطليان في البداية، لكن بعد أن أثبت نجاح أفكاره، تحول لبطل ثوري، وأخرس أعداء التجديد..
أثر أريغو ساكي في كرة القدم بشكل عالمي وليس الكرة الإيطالية فقط، يقول يورغن كلوب: "لم ألتقِ بأريغو ساكي مطلقاً، لكني كمدرب تعلمت كل شيء منه". ساكي أو من كفر بمبادئ أجداده، وأتى بأول بصيص نور للطليان.
ماوريسيو ساري وأثر الفراشة
تم ابتكار مصطلح "أثر الفراشة" عن طريق عالم الرياضيات والأرصاد الجوية "إدوارد لورينتز" عام 1963، حيث كان يعمل على التنبؤ بالأحوال الجوية طبقاً لأجهزة خاصة طورها بنفسه، يدخل لها بعض البيانات وينتظر النتائج، ولاحظ أن أي اختلاف في أرقام ما بعد العلامة العشرية ولو تغير طفيف، يتسبب ذلك في نتائج مختلفة تماماً. يؤكد على المعنى نفسه الفيلسوف الألماني نيتشه بقوله: "لا يمكنك إزالة حبة رمل واحدة من مكانها دون تغيير شيء ما في جميع أجزاء الكون الذي لا يقاس".
ويعود أصل تسمية "أثر الفراشة" مجازاً عن أي فعل ضئيل يحدث تغييراً في الكون، كرفرفة جناح الفراشة الذي يمكن أن يؤدي إلى إعصار في النهاية.
تأثير ماوريسيو ساري في كرة القدم الإيطالية لا يمكن التغافل عنه، فكرة القدم التي يلعبها منتخب مانشيني حالياً، هي نسخة طبق الأصل من كرة "نابولي-ساري"، أو ما تسمى في إيطاليا بالـ"ساريزو"، نسبة إلى ماوريسيو ساري. بعد ثورة ساري في الكرة الإيطالية، أثر ذلك على تفكير العديد من مدربي الكالتشيو، ربما أشهر المدربين الذي تأثروا به، روبيرتو دي زيربي مع نادي ساسولو الإيطالي. رأينا العديد من الفرق تبدأ الهجمة من الخلف بالتدرج بها على الأرض، دون ركل ضربة المرمى بعيداً إلى ملعب الخصم، ربما ساري هو ميتشيلز الكرة الإيطالية، نجح الآخرون بأفكاره وحصدوا ما حصدوا، لكن ذلك لا ينفي حقوق ملكية الثورة الفكرية له، إذا ما حدث في تطور كرة الكالتشيو، هو من ساعد مانشيني على لعب كرة القدم التي نراها اليوم، وماوريسيو ساري، هو أول من قام بتلك الثورة الحديثة، تأثيره ليس أثر الفراشة فحسب، بل أكبر من ذلك بكثير.
اللعب التمركزي هو حاضر ومستقبل كرة القدم
سيزار مينوتي، مجنون كرة القدم الأرجنتيني، أحد أهم مطوري لعبة كرة القدم، يقول: "المرتدة كالحب، قد تأتي، وقد لا تأتي على الإطلاق، لذلك لا يمكن الاعتماد عليها". أعتبر هذه رسالة واضحة لمحبي اللعب على التحولات فقط، فكرة القدم أشمل من ذلك بكثير، كل الفرق التي تقود العالم لفترة طويلة مؤخراً، هي فرق قامت بتبني اللعب المركزي كأسلوب لعب لها، فهو أسلوب لعب شامل، كما سمى ساكي في كتاب "قاموس كرة القدم" أسلوب اللعب التمركزي بأم الأساليب، لأن كل الأساليب الأخرى تأخذ منه مبادئ وأفكاراً، وإيطاليا الحالية تطبق اللعب المركزي بحذافيره، بمبادئه الأساسية وهي (الانتشار – الهيكل – الارتحال – الحركة وفتح زوايا التمرير وتكوين المثلثات – التفوق بأشكاله الثلاثة)، ومبادئه الفرعية كالاستحواذ والرسم الفني وأنماط اللعب والبناء من الخلف وأهم مبدأ وهو ديناميكية اللعب، وهو عدم فصل الدفاع عن الهجوم؛ أي أن الفريق أثناء الهجوم يكون مستعداً للدفاع بشكل غير مباشر والعكس، عن طريق تكوين هيكل قوي، يساعد اللاعبين على عمل التحول الدفاعي بالضغط العكسي بعد فقدان الكرة بسهولة، وهذا ما يميز إيطاليا، وهو سرعة استرجاع الكرة بعد فقدانها.
من تابوهات كرة القدم أن أي فريق يقدم كرة قدم قبيحة أو دفاعية يتم وصفه ب"فريق تكتيكي"، وكلمة تكتيكي أصبحت مبتذلة جداً من فرط ما يتم استخدامها في وصف ذلك النوع من الكرة فقط، رغم أنه يمكن أن يكون أقل تكتيكاً من الكرة الاستباقية أو الشاملة، التكتيك كما ذكر في كتاب قاموس كرة القدم هو عبارة عن تفاعل عدة عناصر مع بعضها، اللاعب والكرة والخصم بالإضافة إلى المساحة، يعني أي تفاعل يحدث في الملعب يسمى تكتيكاً.
إيطاليا كانت من أكبر المنتخبات التي يتم إلصاق تلك الجملة بها بسبب الكرة التي كانت تلعبها، لكن حالياً إيطاليا تستحق تلك الجملة أكثر من الماضي، لأن الفريق متقن لكل حالات اللعب بشكل قوي جداً، متقن لخمس حالات (الدفاع- الهجوم- التحول من الدفاع إلى الهجوم- التحول من الهجوم إلى الدفاع- الكرات الثابتة) وليس متقناً للدفاع والتحولات فقط.
حصر هوية بلد الكروية في الجرينتا والدفاع والمرتدات فقط، هو شيء ممكن أن يكون مرضياً لجمهورها، لكن نسخة إيطاليا الحالية هي الأكثر شمولية في جميع نسخها، على كل حال، إيطاليا الحالية ثورية وممتعة وجميلة جداً، وعلى الصعيد التكتيكي فإيطاليا مانشيني أقوى تكتيكياً بكثير من إيطاليا موسوليني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.