لا تخشى الأنظمة المستبدة على مر التاريخ أكثر ممن يكشف حقيقتهم، ويفضحهم أمام الرأي العام؛ ولذلك إذا تتبعنا تعامل تلك الأنظمة مع الإعلام على مر العصور سنجد العجب العُجاب، وخصوصاً الأنظمة العسكرية.
والمثال البارز على ذلك نموذج إعلام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي تباهى به الرئيس الحالي السيسي في أحد لقاءاته، خلال تدشين محور تنمية قناة السويس، في 5 أغسطس/آب 2014، بقوله "يا بخت عبدالناصر بإعلامه"، ويسعى بكل السبل لتطبيقه في منظومته، بل أستطيع أن أقول إنه فاقه في كثير من الأحيان.
فقد كرَّس عبدالناصر لما عُرف فيما بعد بـ"إعلام الأنظمة" ودشَّن توظيفاً جديداً للإعلام على خريطة النظام السياسي ارتكز على قاعدة الرأي الأوحد، وعارض فكرة التنوع في التوجهات ووجهات النظر، ووحَّد الخطاب الإعلامي؛ فالكل يتحدث في نفس الموضوعات بنفس الطريقة والأسلوب، خاصة عند الحديث في السياسة والاقتصاد، أما مساحة الاختلاف الوحيدة فكانت تترك في الفن والرياضة.
ولم يرحم عبدالناصر حتى الذين وقفوا معه، ودعموه قبل الثورة، من الصحفيين، فسجن إحسان عبدالقدوس، وحاصر أحمد أبوالفتح، وصادر صحيفة "المصري"، ونال من حلمي سلام، وهو من الذين ناصروه ونشروا له منشورات الضباط الأحرار وتبنوا أفكاره. وعندما فشلت مشروعاته الصحفية الأولى منذ إصدار مجلة التحرير، ثم جريدة الجمهورية لم يجد أمامه إلا أن يؤمم الصحف في شهر مايو/أيار من عام 1960.
ماذا فعل السيسي بالإعلام المصري؟!
تحول الإعلام في عهد السيسي عن رسالته الحقيقية المتمثلة في نشر الوعي والثقافة بين الناس، والحفاظ على القيم والتقاليد والمبادئ السامية إلى أداة تروج لقرارات الحاكم، ووسيلة إلهاء يومية تشغل الناس عن قضاياهم اليومية، كتدني مستوى المعيشة، ومصادرة الحريات، وغيرهما من الهموم التي يعيشها المواطن. في الوقت الذي ينهب الاستبداد والفساد ثروات البلاد ويبددها في مشاريع وهمية أو دعائية لا تخدم إلا النخبة، ويظل الإعلام يستعرضها على أنها منجزات وطنية عظيمة.
أصبحت مهمة الإعلام قلب الحقائق، والسيطرة على أفكار البسطاء حتى يتقبل الناس الواقع الذي رسمه لهم المستبد، ويصور لهم أن طالب الحق فاجر، ويعتبر التدين إرهاباً، وبدلاً من أن تكون الصحافة، وحرية الكلمة هي السلطة الرابعة التي تمثل الرقابة الشعبية الحقيقية على تصرفات الحكومة، وخدمة للوطن تحولت إلى أداة للمكايدات السياسية والدفع بها قسراً لإثارة الصراعات، والمجادلات التي لا تخدم سوى الحاكم.
وقبل أن تبدأ خطة سيطرة الدولة على الإعلام الخاص، قرّرت دوائر السلطة إطلاق شبكة قنوات تتحدث باسمها، وتكون المعبّر الرئيس عن حال الدولة بدلاً من التلفزيون الرسمي الذي تصعب إعادته إلى الحياة بسرعة. فكان قرار إطلاق شبكة (dmc) التي لم تحقق نجاحاً يُذكر، على رغم تنفيذها برامج بتكلفة عالية، واستقطابها غالبية الكفاءات في المحطات الأخرى.
ومن ثم ّبدأت الأجهزة الأمنية خطة السيطرة التي يشاع أنها أعدّت على عين مدير مكتب السيسي آنذاك، اللواء عباس كامل (رئيس المخابرات العامة حالياً)، وتمّ دمج الشبكة ضمن "مجموعة إعلام المصريين" التي صارت تمتلك إعلاماً موازياً للإعلام الرسمي للدولة، وتدير شؤونها المالية وزيرةُ الاستثمار السابقة، داليا خورشيد زوجة محافظ البنك المركزي طارق عامر، ووصل الاحتكار إلى المحتوى التلفزيوني أيضاً، فلم يعد الأمر مقتصراً على السياسة فقط، بل امتدّ إلى الدراما التي لم يعد يُسمح للمعارضين أو حتى رافضي التأييد بالعمل فيها.
في الوقت نفسه، فرضت السلطة شروطاً قاسية على الوكالات الإعلانية المختلفة، ما جعل غالبيتها تابعة له أو من دون عمل يُذكر، بعدما مُنع رجال الأعمال من التعاقد معها. ومن جهة ثانية، صارت شركة "إعلام المصريين" تملك أكثر من 80% من المحطات الفضائية والإذاعات التي تخرج من مدينة الإنتاج، فباتت تتحكم في مصير العاملين وتقصي وتعيد من تشاء، علماً بأن معاييرها في الاختيار أمنية بالدرجة الأولى.
في النهاية تحول الإعلام المصري إلى إعلام "السيسي".
لماذا يقلق السيسي من الإعلام المصري المعارض؟
على الرغم من سيطرة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المصرية الكاملة على الإعلام المصري، وكل مفرداته من دراما وغيرها، وإسكات أي صوت معارض بالداخل، وإغلاق ست قنوات فضائية، وحجب المئات من مواقع الإنترنت، وملاحقة الإعلاميين والصحفيين والحقوقيين، واعتقال المئات منهم خلال السنوات الماضية، إلا أن النظام المصري لا يزال يقلقه إعلام الخارج الكاشف لممارساته، مسلط الضوء على انتهاكاته، وخصوصاً أن الأيام القادمة ستشهد الملء الثاني لسد النهضة، بما قد يؤثر بالسلب على حصة مصر المائية، الذي سيؤدي بلا شك إلى أزمة كبيرة لمصر، وتعطيش المصريين، ومن ثمَّ يريد السيسي التغطية على مثل هذه الأحداث، وعدم كشف المتسبب في هذه الأزمة.
تلك القنوات تشكّل هاجساً وصداعاً دائمين للنظام المصري، بكشفها للحقائق أمام الرأي العام المصري، حتى إن السيسي عبّر في أحد لقاءاته، عن انزعاجه من إعلام الخارج بأن الجميع "هيتحاسب".
وحينما تواترت الأنباء عن التقارب المصري التركي في 18 مارس/آذار 2021، وأشيع طلب المسؤولين في تركيا من قنوات المعارضة المصرية التي تعمل من داخل تركيا، تخفيض سقف معارضتها للنظام المصري، وخصوصاً ما يتعلق بالسيسي، وانتهى الأمر أخيراً بإيقاف بعض البرامج المؤثرة في 24 يونيو/حزيران 2021، والتي لها نسبة مشاهدة عالية من المصريين داخل مصر وخارجها، منها: برنامج "مع زوبع" الذي يقدمه الدكتور حمزة زوبع، و"مصر النهارده" الذي يقدمه الإعلامي محمد ناصر، على قناة مكملين، وبرنامج "مع معتز" الذي يقدمه الإعلامي معتز مطر، و"ابن البلد" الذي يقدمه الفنان هشام عبدالله على قناة الشرق الفضائية.
وكان الشُّغل الشاغل للنظام المصري من أجل التقارب مع تركيا، هو إيقاف هذه البرامج كلياً، وظهر ذلك بوضوح من خلال تناول الإعلام المصري المعبِّر عن سياسة النظام، سواء من عمرو أديب إلى أحمد موسى إلى نشأت الديهي ومصطفى بكري، وغيرهم، لأنهم جميعاً ينطلقون من بوق واحد لا يختلف إلا في الشكل فقط.
نظام السيسي ينزعج ويقلق من بضع قنوات فضائية لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، على الرغم من أن حجم إنفاقها ربما يكون أقل من حجم إنفاق قناة واحدة من تلك القنوات المؤيدة له!
وتحول إعلام الخارج البديل الحقيقي لإعلام الداخل في إقناع ملايين المصريين، وأصبح بمثابة المرآة التي تعكس واقعه المرير، الأمر الذي من شأنه أن يزعج السيسي ونظامه أشد الإزعاج، ويولّد لديه شعوراً بالفشل في السيطرة على الشعب وإقناعه. فأوضاع المصريين المتردية، اقتصادياً وحقوقياً وسياسياً، تؤكد زيف البروباغاندا الحكومية فيما يتعلق بالإنجازات.
خاتمة
أقول إن طبيعة المستبد أنه لا يرى إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته، ولا يسمح لأي نوع من المعارضة التي تؤرق مضجعه، أو تخالفه الرأي.
الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسُوق الناس إلى اعتقاد أنّ طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح، ويصبح كذلك النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتّواً، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كما يعتبر أن النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.