مذ سمعت قصة هذه الفتاة المقدسية الشهيدة على لسان خطيبها منذ شهرين تقريباً من قيام الانتفاضة، وإذ بخيالها يتسلل إلى ذهني في عفوية بين الحين والآخر جارّاً معه العديدة من التساؤلات المحيرة داخل رأسي.
وحتى لا يختفي أثرها الذي ظل فيّ عاكفاً طيلة تلك الفترة، قررت أن أكتب عنها.
هي مثال للفتاة المحافظة العفيفة المتدينة.. حافظة لكتاب الله ومتستّرة في حجابها الجميل، المنكبّة على الدراسة وأحلامها الكبيرة.. شيماء بنت 22 عاماً ذات الوجه الصبوح والابتسامة المشرقة البهيجة والتي لعلّها كانت قد أَولَتها بعناية خاصة لكونها طالبة طب أسنان. كانت تستعدّ لزواجها المقرر فور انتهاء رمضان الكريم.
لم أسمع قصّتها قبل أن رأيت مواقع التواصل تداول صورتها حتى إنّها قد تناقلتها صحف عالمية وشخصيات هامّة.
كنت أسبح في فكري أتأمل في كل ذلك، لا أعلم كم مرة رددت في تعجب وحنق كم هي الحياة فانية وحقيرة؟ أيعقل أن كل ذلك قد وجد في نهاية مطافه تحت الركام؟
لشيماء أبوالعوف والكثيرات والكثيرين أمثالها.. أيعقل هذه الوحشية والقسوة والجنوح إلى التدمير والخراب لأناس يأكلون الطعام مثلنا وينامون الليل؟
أيعقل أن ندمرّ أحلاماً وضحكات ودفئ بيوت وذكريات فتتحوّل إلى كوم جثث وحطام وغبار وأرقام؟
ولكن إن هذه المحنة رغم بشاعتها وشدة فَظاعة ما حصل، إلا أنه صدق من قال (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، فماذا رأينا فيها من خير؟
رأينا شهامة شعب بنسائه ورجاله.. وفتوّة شباب منطلق مقاوم أبيّ.. كما رأينا أبطال بالرغم من أنهم لم يختاروا بطولتهم ماتوا ضاحكين في وجه أعدائهم وأصحاب الخراب.. فأي ميتة وأي بطولة هذه.. ولكّن الله هو الذي اختار.. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد)، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)، (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ).
واصطفاء الله عزّ وجل لهم لم يكن بمحض الصدفة أو عشوائية القدَر.. هم أناس حتماً على قَدْر.. على قَدْر من الطيبة والدين والخلق.. فما رأى الله سبحانه وعزّ قَدْره إلا أن أنزلهم منازل الشهداء؛ لأنه وببساطة إخواني الكرام أبداً لم تكن الشهادة في دين الله رديفاً للموت، فما بالكم بقول العلي الكبير "وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَٰتٌۢ ۚ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ".
هكذا قد أراد الله سبحانه وتعالى لبعض الناس.. من لم يُسْمع لهم صدى ولا صخباً طيلة حياتهم ولم يبتغوا علواً في الأرض.. لا يبْلغ أثرهم إلى نفوس البشر إلا بمجرد موتهم .. فيصيرون رُمُوزاً وأبْطالاً وقُدُوات ونماذج حسنة دون سابق تخطيط أو نية بلوغ هذه الدرجة العليا.. وما أحوجنا إلى أمثال شيماء أبوالعوف رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
وذاك هو صميم المراد ومبلغ الغاية هم أحياء في عقولنا وقلوبنا وعلينا أن نحذو حذوهم ونقتفي الأثر.. ذلك الأثر العظيم الصامت في أنفسنا.
وكان الله سبحانه وتعالى رفع إليه شيماء وقدّم إلينا القدوة.. اختيار الله.. العلي الكبير "ولا خيرة إلا في ما اختاره الله".. فهنيئاً لهم هذا الخيار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.