مَحو الجنون: حول استعادة الفن للمرض النفسي

عربي بوست
تم النشر: 2021/07/01 الساعة 10:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/07/06 الساعة 15:10 بتوقيت غرينتش
iStock

احتفى الكثير من المشاهدين بالمسلسل الدرامي "خلي بالك من زيزي" الذي عُرض في شهر رمضان الماضي، وذلك لتناوله اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه "ADHD" والذي جُسد في شخصية البطلة زيزي (أمينة خليل)، حيث كانت تعانيه منذ صغرها. لكن، أهلها لم يدركوا حالتها، ولم يتعرّفوا أو يعترفوا به إلى بعد أن اكتشفته عندما أصبحت شابّة، بل كانوا يعاملونها كأنها عصبية إلى حدِّ الجنون. هذا الاحتفاء، ذكّر المشاهد المصري بفيلم "آسف على الإزعاج" الصادر عام 2008، وقد ناقش بشكلٍ جدّي مرض الفصام الشخصي "schizophrenia" المصاب به البطل (أحمد حلمي)، والذي يجعله يتخيّل أشياء ويتفاعل معها، وهى محض خياله فقط، بالإضافة إلى إصابته بالبارانويا وهى حالة تصيب الشخص بجنون الارتياب وعدم الثقة بالأشخاص في التعامل واعتقاد وتخيّل مُمارسات تدل على كرههم له. 

هاتان القصّتان كانتا من أهم ما عُرض على شاشة التلفزيون بوجهها الدرامي والسينمائي في القرن الواحد والعشرين -وهو قليل- من حيث تجسيد المرض النفسي، داخل عقل ونفس الإنسان، والحث على التعامل معه دون حرجٍ، أو ارتيابٍ أو وصمٍ بالجنون لأصحاب الحالات النفسيّة، عكس ما صنعته السينما في المنتصف الثاني من القرن الماضي، فقد جسدت المرض النفسي بحالاته المتنوّعة، من أبرز مؤلفي قصص تلك الأعمال، هو الأديب الكبير الراحل إحسان عبدالقدوس، فقد كتب الكثير من الأعمال الأدبية بين القصة والرواية التي تناقش المرض النفسي، مثل، شفتاه، أرجوك أعطني هذا الدواء، أين عقلي، بئر الحرمان، النظارة السوداء، لا أنام، وقد ناقش فيها عبدالقدوس اضطرابات نفسيّة متنوّعة، نأخذ بعض تلك الاضطرابات، التي اهتمَّ عبدالقدوس بمناقشتها؟ وإلى أي مدى نحتاج إبراز الاضطرابات النفسية من خلال الأعمال الفنيّة في وقتنا الحالي؟ 

إلكترا والفصام، وأمراض أُخرى

في فيلم لا أنام الصادر عام 1957، وهو قصة إحسان عبدالقدوس، التي غُلّفت بعد ذلك في "رواية" تحمل ذات الاسم نشرت عام 1969، تشابهتْ أحداث الفيلم بالرواية، حول البنت المُراهقة المتعلّقة بأبيها، والتي تعاني من عقدة إلكترا كما يسمّيها النفسانيّ كارل يونغ، أو عقدة أوديب الأنثوية كما يسمّيها فرويد، وهو اضطراب نفسي يدل على التعلّق الزائد للفتاة بأبيها، المُتمثّل في الغيرة عليه، سواء من أمّها أو زوجة جديدة له غير أُمّها، وهذا بالضبط ما فعلته نادية (فاتن حمامة) مع أبيها أحمد (يحيى شاهين) حيث تآمرت على زوجته واتهمتها بالخيانة، لتفرّق بينهما. أيضاً في قصة وفيلم العذراء والشعر الأبيض لنفس الكاتب، ظهرت عقدة إلكترا حيث أحبّت الفتاة أباها. 

ركّز عبدالقدوس أيضاً على مرض انفصام الشخصية، بل وتعددت حالاته وأعراضه في الكثير من أدبياته وأفلامه. في فيلم أين عقلي، المأخوذ عن رواية حالة الدكتور حسن، حيث دار الفيلم حول شخصية مُحافظة تعيش في حالة الفِصام، بين إرثها المحافظ التي تربّت عليه، وبين حياته الجديدة وسط قيم أُخرى، تسمّى تقدّمية. كما اكتشف يوم زفافه أن زوجته ليست عذراء. فكتم غضبه داخله، وبدأ في الانتقام منها، بوهمها أنّها مريضة نفسية بنفس مرضه، أي أنّها مَفصومة الشخصية، تنسى ما تقول وما تفعل، ما سبب لها الحيرة، وبدوره بدأ الطبيب النفسي البحث عمن فيهما المريض حقّاً. 

أيضاً في قصّته بئر الحرمان، عانت الفتاة من ازدواج الشخصية، فَهي تمتلك شخصيتين واحدة للنهار، وأُخرى في الليل، وهذا بسبب جفاء والدها وحرمانها من عطفه عندما كانت صغيرة. تعمّق أيضاً عبدالقدوس في فيلم أرجوك أعطني هذا الدواء، المأخوذة عن قصةٍ له، حيث عانت المرأة المتزوجة من اضطراب ضعف الثقة في نفسها وفي جمالها، وذلك بسبب خيانة زوجها المتكررة لها، حتى أنّها أُصيبت بإعياءات أثناء ممارسة الجنس معه، أيضاً صوَّر اضطراب الثقة لديها، في ضعف شخصيتها أمامه والاستسلام له في كل ما يُريد، حتى بدأ طبيبها النفسي في حثّها على استعادة ثقتها بنفسها كامرأةٍ جميلة ومثيرة، ما جعلها تبدأ بالفعل في مقاومة ديكتاتورية زوجها في التعامل معها، حتى أحسَّ بها، وأعطاها مكانتها كزوجة جميلة تستحق معاملةً أفضل. 

عبدالقدوس مقتبساً فرويد

تأثر الكثيرون من صنّاع الأعمال الأدبية والسينمائية بنظريّات فرويد النفسية، وبالأخص عبدالقدوس، فلم يكن إحسان طبيباً نفسياً، بل درس المُحاماة، وعمل  في كتابة وتأليف المقالات والأدب، التي امتزجت بالتحليل النفسي المأخوذ عن سَيجموند فرويد ذائع الصيت وقتها، حيث تُرجمت الكثير من كتب فرويد للعربية، فتهافت عليها الكثير من المثقّفين العرب.

سيغموند فرويد

أرّجع فرويد الأسباب في أغلب اضطراباته للحالة الجنسية، أو طريقة تربية الأطفال. ظهرت هذه الاضطرابات في قصص وأفلام عبدالقدوس، التي كانت الحالة النفسية محور الكثير منها، فتجده في قصتي العذراء والشعر الأبيض، ولا أنام، ذاكراً عقدة أوديب الأنثوية/إلكترا. أيضاً اضطراب فصام الشخصية، الذي يتبعه كثير من الأعراض مثل القلق والتوتر الزائد، وجنون الارتياب بشأن الآخر، وعدم الثقة بالنفس، لازمت كافة شخصيّات عبدالقدوس، في قصصٍ مثل أرجوك أعطني هذا الدواء، بئر الحرمان، أين عقلي، النظارة السوداء وغيرها.  

السينما في المنتصف الثاني من القرن العشرين قد ناقشت وعرضت قضايا نفسية كثيرة، وقد عالجتها حسب وجهات النظر المختلفة، وثقافة صانعي تلك السينما، من إحسان عبدالقدوس، نجيب محفوظ، يوسف شاهين، كمال الشيخ، صلاح أبوسيف وغيرهم. لكن، كان الاضطراب النفسي حاضراً على طاولة المناقشات والنقّاد وغيرهم. وهذا ما افتقدناه في سينما القرن الواحد والعشرين، بالرغم من تزايد حالات الاضطراب النفسي، بأنواعها الكثيرة المتباينة، في ظلّ العيش في نُظم جديدة من حيث الاجتماع والنفس والاقتصاد، نظم استهلاكية تتفاعل وتُعيد إنتاج ذوات إنسانية جديدة. في بلد، لا تدلّ الأحوال النفسية والاجتماعية إلا على الخراب النفسي لمواطنيه، وهذا من خلال رصد أفعال الجريمة العالية، وفشل منظومة العلاقات والتيه في مفهومها وتعريفها وحقوقها وواجباتها وغير ذلك. 

مؤخراً، قد ناقش فيلم "علي معزة وإبراهيم" صادر عام 2016، اضطرابات نفسية وذهنية، حيث يلتقي شخصان، الأول يحب معزة، يسمّيها ندى، ليتضح مؤخراً أنه كان في يومٍ من الأيّام، يمشي مع خطيبته ندى على الكورنيش، وفجأة إذ ندى تقع في النيل وتغرق وتموت، فيجد هذه المعزة في نفس الوقت، فيأخذها معه، ويرتبط بها بدلاً من خطيبته ندى التي ماتت. أما الثاني فهو شاب فنان، لكن من وقتٍ لآخر، تأتيه أصوات غريبة ومزعجة في أُذنه فلا يستطيع مقاومتها، ويبدأ بالصراخ، ويفكر في الانتحار والتخلص من الحياة المزعجة التي تسكن أُذنيّه. 

لم يأخذ الفيلم حقّه في النقاش والنقد أمام الجمهور، وتفسير حالاته المرضية، هل يعاني علي معزة من الفصام أم حلم اليقظة، أو غير ذلك. وبالرغم من الاحتفاء بمسلسل "خلي بالك من زيزي مؤخراً" فإنَّ الاجتماعات المصرية المُختلفة تحتاج إلى مزيد من تداول الأعمال الفنية التي تركّز على اضطرابات نفسية كثيرة، تحتاج إلى إبراز معاناتها، والتثقيف في مفهومها وكيفية التعامل معها وعلاجها، ليس فقط وسط النخبة الفنية ومثقّفيها، بل يصل النقاش والتثقيف إلى الفئات الاجتماعية المتوسطة والدُنيا من حيث المعرفة والثقافة، وأن تأخذ تلك الأعمال مكاناً جيداً من الصناعة الفنية بجانب الأعمال الأُخرى، والعمل على تنحية صناعة البلطجة والجنس اللّذين يسيطران منذ فترةٍ ليست قصيرة، لِتساعد بدورها في توعية الناس في الإجابة عن سؤال: ما هو المرض النفسي وأنواعه، وحالاته وأعراضه، وأسبابه وكيفية التعايش معها وعلاجها، وإزالة وصمّة العار والجنون لمُريديه؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد عبد الحليم
كاتب وباحث مصري في قضايا السياسةوالاجتماع
كاتب وباحث مصريّ، له العديد من المقالات والدراسات والتحقيقات المنشورة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة في عدد من المؤسّسات البحثية والمنابر العربية. مؤلّف كتابي «الحارة العربيّة» و«أجساد راقصة»، صدرت عن دار الجديد، بلبنان عام 2021.
تحميل المزيد