رغم تدافُع الأحداث وتسارع إيقاع مجريات الأمور في فلسطين، لا يغيب عن العقل الحاجة إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وفي هذا السياق تبدو الحاجة أكثر إلحاحاً لإعادة بناء وتأطير مجموعة من المفاهيم والمحددات، لكي تساهم في خلق تصور متكامل عن مآلات القضية الفلسطينية مستقبلاً، وحتى عن شكل البيت الفلسطيني.
ما يخلق الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للعمل على تأطير المفاهيم الوطنية الفلسطينية من جديد هو التناقض الواضح بين صوت الشعب وصوت السياسيين. فما بين الموقف السياسي السلطوي والاستبدادي تجاه قضايا كالتطبيع العربي ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والموقف الشعبي الشامل والممتد على رقعة جغرافية تتعدى حدود الوطن الفلسطيني خلال أحداث المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، تناقُض صارخ وفجوة هائلة.
هذا التناقض وتلك الفجوة الكبيرة في المفاهيم والتصورات بدت جليةً في حادثة مقتل المعارض السياسي نزار بنات على يد قوات أمن السلطة الفلسطينية، وتعاملها مع المتظاهرين المندّدين بتلك الحادثة.
تضارُب المفاهيم
الأصل أن المشاريع السياسية في أي بلد تُخلق وتبنى على مفاهيم ومحددات سياسية واضحة، تمثل علامات الطريق السياسي، والاحتياج لإطار مفاهيمي يبدو أكثر إلحاحاً في الحالة الفلسطينية، لكون الشعب يرزح تحت الاحتلال ولديه مشروع وآمال تحررية كبيرة. كما أن الأطر الجامعة للشعب الفلسطيني تم تفتيتها وتشويهها منذ عقدت اتفاقية أوسلو. "أوسلو" هي التي أنتجت السلطة الفلسطينية بشكلها وهيكليتها الحالية، والتي بدورها حولت الشعب الفلسطيني من شعب يقاوم المحتل لشعب تحت رحمة سلطة إدارية لا ترقى لأن تكون دولة معترفاً بها دولياً ولا يسهل الإطاحة بها.
الفجوة الناتجة ما بين الإطار الشعبي والسياسي خلقت مجالاً لتضارب المفاهيم. وتصرفات وقرارات السلطة الفلسطينية اليوم سواء سياسياً أو أمنياً ما هي إلا جزء من تداعيات ذلك التضارب.
ذلك التضارب وغياب المفاهيم المنيرة لطريق التحرر، كلها معضلات جعلت خيانة المشروع التحرري للشعب الفلسطيني وجهة نظر يمكن النقاش فيها،
ولذلك فمن الضروري العمل على تحديد الأطر المفاهيمية للقضية الفلسطينية ومحددات المشروع الوطني.
شرعية منتهية الصلاحية
أولاً، الرؤية الشعبية الفلسطينية للقضية هي رؤية تحررية دون مساومات، وهذا ما تذكر به مراراً وتكراراً المواجهات مع الاحتلال. تلك الرؤية التحررية هي التي دفعت الشعب الفلسطيني للانضمام سابقاً لفصائل منظمة التحرير وعلى رأسها حركة "فتح"، وهي التي كانت الدافع عند الشعب الفلسطيني لمنح فصائل منظمة التحرير الثقة، كونها كانت تعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وتوقه للحرية والاستقلال. ولذلك يجب علينا إعادة الأمور إلى المرحلة الأولى، أي التحرر في مواجهة الاحتلال.
ثانياً، توقيع اتفاقية أوسلو كان خياراً حزبياً لم يحظَ بموافقة شعبية، ولم يعرض على أي استفتاء. ووحدها السياقات التاريخية والسياسية مَن جعلت من منظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني، لكن "أوسلو" وما بني عليها لم يكن فلسطينياً. ليس المقصود هنا إنكار ما قدمته فصائل "منظمة التحرير" ولا شطب تاريخها، لكن لا يمكن التغاضي عن وجود المصلحة والدوافع الحزبية حين تنفرد بعض الأحزاب بالسلطة وتتخذ القرارات المصيرية، بناءً على شرعية غير شعبية، وإنما مفروضة في سياق معين.
ثالثاً، عندما يكون رئيس السلطة في بلد ما بالعالم هو رئيس تيار سياسي أو حزب معين، يتحمل الحزب، سياسياً وأخلاقياً، سياسات وأعمال السلطة، وذلك من بديهيات السياسة. من المستحيل أن ينأى الحزب الحاكم بنفسه عن سياسات وأعمال الرئيس ممثله في السلطة.
كيف لو كان كل المتحدثين باسم الحزب وقادته مبررين لأعمال وسياسات السلطة غير القانونية وغير الأخلاقية، كما هو حال المتحدثين باسم حركة "فتح" اليوم، الذين لم ينبسوا ببنت شفة على سحل وضرب المتظاهرين المعترضين على "اغتيال" الناشط السياسي نزار بنات. قلة فقط من كوادر "فتح" اعترضت على ذلك التغول، لكن كلامياً وعلى خجل.
رابعاً، لو وضعنا "شرعية أوسلو" جانباً، فإن معضلة انعدام الشرعية الانتخابية للسلطة مستمرة منذ عقد ونصف تقريباً. انتخابياً قيادة حركة "فتح" للسلطة هي قيادة منتهية الصلاحية، خسرت الحركة آخر انتخابات تشريعية عام 2006، ومازالت بالحكم بدعم إقليمي ودولي، تحت ذريعة الانقسام (المفتعل).
خاتمة
وعليه، فإذا ما أردنا كأمةٍ فلسطينية تغييراً حقيقياً ومشروعاً تحررياً فعلينا أن نبدأ بتغيير مفاهيمنا ونظرتنا للمنظومة كاملة، "أوسلو"، "منظمة التحرير" بشكلها الحالي كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، والسلطة التي أصبحت اليوم عقبة أمام مشروع التحرر وليست جزءاً من الحل. أي حراك فلسطيني يجب أن يكون ضد السلطة أولاً لأن مشروعها لا يتماشى بأي شكل مع أي مشروع فلسطيني تحرري. وجود السلطة يخفف على الاحتلال عبئاً دولياً كبيراً، فمن يتحمل مسؤولية الشعب الفلسطيني دولياً اليوم هو السلطة المتسلطة على ظهر القضية. يجب العمل على إعادة بناء المفاهيم ليس فقط شعبياً، بل حتى فصائلياً، من خلال العمل على إخراج مشروع السلطة الانهزامي خارج أي حسابات سياسية وبشكل واضح. لم يعد من المقبول الاتكاء على إرث ثوري، أصبح من الماضي، للاستمرار في مشروع سلطوي يسيء للشعب الفلسطيني ويؤخر تحرره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.