للحظة، شعر اللبنانيون المؤيدون للثورة التي اشتعلت في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضدّ السلطة الحاكمة والعميقة التي تمسك بمفاصل الحكم منذ أكثر من ثلاثة عقود بأنّهم جزء من المهندسين الذين اكتسحوا هذه السلطة بفوز ساحق عبر انتخابات نقابة المهندسين في بيروت.
في حادثة غير مسبوقة، تحالفت أحزاب السلطة مع بعضها البعض، تصافح تيار المستقبل مع غريمه السياسيّ المزمن حزب الله، وانضم إليهم التيار الوطني الحرّ رغم غرقه بخلافات حادّة مع تيار المستقبل حول ملفّ تشكيل الحكومة حتى أنّ التواصل مقطوع بين الطرفيّن.
كلّ هذا التكاتف بين المتناقضات من أجل الاستمرار في الحكم، والتغلغل في السلطة بوجه المستقلّين المتمثّلين بلائحة "النقابة تنتفض" عبر مرافئ عديدة وأهمّها النقابات التي تشكلّ عموداً أساسيّاً من العمل السياسي والاجتماعي تحضيراً للعمل على نطاق الأوسع، أي الوطن ومجلس النوّاب.
هذا وقد حقّقت لائحة النقابة تنتفض في المرحلة الأولى من الانتخابات (أي انتخاب المندوبين)، حيث حصلوا على 221 مقعداً من أصل 232 في هيئة المندوبين و15 مقعداً من أصل 20 في الفروع، على أن تكون هناك مرحلة ثانية من الانتخابات لانتخاب النقيب في 18 يوليو/تمّوز من العام الحالي.
الثورة تحرّكت سياسيّاً
مع تفاقم الأزمات في لبنان والوقف بالساعات أمام محطّات الوقود والشحّ في المحروقات وانقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 20 ساعة يوميّاً تزامناً مع حركة الركود في الشارع رغم وجود بعض التحرّكات وقطع بعض الطرّقات، ظنّ اللبنانيون أن الثورة ذهبت إلى مثواها الأخير.
لكن مع كلّ فرصة جديدة، يتبيّن أن الثورة ما زالت على قيد الحياة وتأخذ المجرى السياسي شيئاً فشيئاً. كانت البداية مع الانتخابات الطلّابية في الجامعات اللبنانية وتحديداً عبر الجامعة اللبنانيّة الأمريكية، حيث حقّق الطلّاب المستقلّون فوزاً ساحقاً في فرعي بيروت وجبيل في الشمال للمرّة الأولى. لم تمضِ مدّة طويلة حتى تلتها أكبر جامعات لبنان، أي الجامعة الأمريكيّة في بيروت حيث انسحبت الأحزاب من الانتخابات بعد إدراكها أن حظوظها شبه معدومة لتوسّع الطريق أمام النادي العلماني الذي حصد أغلبية المقاعد. كان الختام مسكاً مع الجامعة الياسوعيّة (والمعروفة أيضاً بالقديس يوسف) التي أيضاً حقّق فيها النادي العلماني برفقة المستقلّين فوزاً تاريخيّاً.
اليوم، وللمرّة الأولى منذ سنين، يعود طرح انتخابات المجلس الطلّابي إلى الجامعة اللبنانية مع وصول المستقلّين والنّادي العلماني إلى حرم الجامعة لتثبيت أهمية الانتخابات بعد سيطرة الثنائي الشيعي عليها بتفاصيلها.
بدأت الترجمة السياسية لرفض أحزاب السلطة وماكيناتها الانتخابية ومحاصصاتها وتركيبتها في الجامعات اللبنانية، وتطوّرت لتصل إلى النقابات حيث العمل الجديّ والأوسع.
في انتخابات نقابة المحامين، التي كان يسيطر عليها التيار العوني مدى عامين ويحضنها الأعضاء من أحزاب أخرى مختلفة، لكن أيضاً في أواخر عام 2019 انتخب النقيب المستقل من رحم الثورة المحامي ملحم خلف رغم صدور بعض التحفّظات عليه حديثاً. مصادر من داخل النقابة تؤكّد أن النقيب يعمل بطريقة مختلفة إن كان من ناحية إضرابهم عن الجلسات بسبب سوء معاملتهم، أو صون كرامتهم بشكل عام وهذا ما لم يعيشوه مع النقباء السّابقين.
أحدث الانتصارات للثورة تمثلّت في نقابة المهندسين في بيروت، حيث تابعوا مسار الجامعات ونقابة المحامين ليحصدوا نتائج غير مسبوقة ليثبتوا أن التغيير أصبح مبدأ، لا "نزلة على الشارع" فقط.
ماذا خسر الأحزاب؟
من المتوقّع أن تطلق الأحزاب جيوشها الإلكترونيّة للتبرير أن انتخابات النقابات غير مجدية، وأن النقابات غير فعّالة ولا تعكس واقع الشّارع وأنّ هذه النقابات مجرّد تفصيل لا يقدّم ولا يؤخّر.
لكن الواقع عكس ذلك تماماً، تستثمر السلطة النقابات بهدف تطبيق سياسة المحاصصة بحذافيرها عبر التوظيفات العشوائيّة وتحصيل مكاسب معيّنة. على سبيل المثال، يمكن للنقيب لأن يكون مستقلاً كما حال نقابة المهندسين، فالنقيب جاد تابت الذي انتخب عام 2018 كان مستقلّاً، ولكن المندوبين محسوبين على الأحزاب السياسية المختلفة: تيار المستقبل، حزب الله، حركة أمل، تيار الوطني الحرّ، الحزب التقدّمي الاشتراكي وحزب القوّات اللبنانيّة.
لذا، عبر المندوبين، يوظّفون متعهّدين مقرّبين لهم، أو يكلّفون مهندسين يمونون عليهم من أجل استلام مشروع معيّن يعيد لهم أرباحاً.
فبهذه الخسارة المدوية استطاعت لائحة النقابة تنتفض بأن تقطع أيدي الأحزاب مبدئيّاً عن الاستمرار بالمحاصصة والاستفادة من العمولات والمحسوبيات وما شابه ذلك.
أمّا في الجامعات، فكانت لأحزاب المستفيدة الأكبر حيث يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، وتتمكّن من الحصول على ما لم يحصل عليه غيرها.
في سبيل التوضيح، تزرع الأحزاب في أذهان الطلّاب حتى قبل دخولهم إلى الجامعات بالانتماء إليهم للحصول على المكتسبات الجوهريّة. ومن هذه المكتسبات، منحة كاملة أو دفع جزء لا بأس به من الأقساط الجامعية شرط الانتساب إليهم ومباركة وصولهم إلى المجلس الطلّابي.
الموضوع لا يتوقّف هنا، فما تفعله الأحزاب أيضاً للتلاميذ هو تقديم نموذج عن الامتحانات السّابقة مع اقتراب فترة الامتحانات الفصلية الجامعيّة أو ما يعرف بالـ previous tests ويسعى التلاميذ جاهدين للحصول عليها من أجل التفوّق في النتائج. لذا، بعد الانتساب إلى الحزب أو التيار، بإمكان التلاميذ الحصول على ذلك مجّاناً وبسرعة كتحصيل حاصل.
مجدّداً، مع ابتعاد الأحزاب عن المجالس الطلابية، من الممكن أن يصبح العمل في المجلس الطلّابي للجميع، وليس فقط للأحزاب وتوابعهم حيث أثبت ذلك مراراً وتكراراً في المجلس الطلّابي الجديد في الجامعة اللبنانية الأمريكيّة.
من الجامعات والنقابات.. إلى مجلس النواب!
من الواضح أنّ نتائج انتخابات الطلّاب والنقابات أربكت السّلطة مجتمعة، والدليل على ذلك إقدام نقابة المهندسين في بيروت على تأجيل الانتخابات 6 مرّات، حيث كان يجب أن تقام في عام 2020 لأن ولايتها سنتين فقط، ولكن استمرّ بالتأجيل بذريعة أنه لا يستطيع حماية المهندسين في حال تعذّر وصول الناخبين إلى مقرّ النقابة بذريعة الأوضاع الأمنية وحالة الطوارئ الصحيّة أي كورونا.
كان من المفترض القيام بانتخابات نيابيّة مبكرة، ولكن لا شيء يبشّر السلطة الحالية بالفوز كما سابقاً، أي الاستمرارية بطريقة متفوّقة. لذا، سيسعى المسؤولون إلى تأجيل الانتخابات النيابيّة ما استطاعوا، أو من الممكن أيضاً تركيب تحالفات متناقضة كما حدث في الجامعات والنقابات كالغريق المتعلّق بقشّة.
أمّا الأحزاب والحركات المستقلّة الجديدة، فعليها أن تأخذ دروساً وتؤيّد بعض الملاحظات. ليس عيباً على الأحزاب الجديدة أن تتحالف كلّها مع بعضها، أو مع معارضين سابقين كما الحزب الشيوعي وحزب الكتائب الذي غيّر مساره بعد الانتخابات عام 2018، بسبب القاعدة الشعبية الكبيرة التي تمكّنها من الوصول بجدارة إلى مجلس النوّاب.
أمّا داخل المجلس، فمن المبكر الحديث عن الطروحات والائتلافات ومن يتفق مع من أو من يخالف من، الهدف الأساسي اليوم هو العبور إلى داخل المجلس وتثبيت الأقدام، والباقي تفاصيل…
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.