عندما كنت أترجم السيرة الذاتية لأنا ماري شيمل كانت المعلومات المتوفرة لدي أنها لم تتزوج قط، وأنها عاشت راهبة متفرغة للدراسات العربية والإسلامية، والعجيب أنها لم تُشر في سيرتها الذاتية لهذا الأمر قط.
وكانت السيرة دون هوامش والببليوغرافيا غير كاملة، وهذا ما بذلت جهدي لإكماله، فكتبت سلسلة من الهوامش الموضحة، ووضعتها كملحق في آخر الترجمة، حتى لا تعيق القارئ المتعجل، فجاءت كمعجم صغير يضم المعلومات الضرورية حول الشخصيات الأخرى التي تحدثت عنها شيمل، مثل علماء الأديان والمستشرقين، خاصة الجدد منهم، وغير المعروفين في العربية.
وقد ظُلمت مرات بسبب هذا المعجم أو الملحق؛ حيث نشره المشروع القومي للترجمة ملحقاً بالترجمة دون الإشارة إلى أنه من تأليفي، ولا أدري حتى الآن كيف سقطت الصفحة التي تقول إن الملاحق التالية من عمل المترجم! المهم أن سقوط تلك الصفحة جعل البعض يظن أن تلك الملاحق لشيمل! زد على ذلك أن هذا المعجم سرق أكثر من مرة في مقالات ودراسات دون الإشارة إليّ أو إلى سيرة شيمل، وكأن هذا المعجم أصبح ملكاً مشاعاً!
**
وعندما كنت أعد قائمة أعمال شيمل (ببليوغرافيا)، مما ذكر في سيرتها وما لم يذكر، وجدت أنها ترجمت كتاباً من الفارسية إلى التركية (سنة 1955)، عنوانه "سيرة الشيخ الكبير أبي عبدالله محمد بن خفيف الشيرازي" لأبي الحسن الديلمي. والطريف في الأمر أن هذا الكتاب أُلف في بداية الأمر بالعربية، ثم ترجمه ركن الدين الشيرازي إلى الفارسية، فلما ضاع الأصل العربي أصبحت الترجمة الفارسية أصلاً، ومن ثم ترجمتها شيمل (الألمانية) عن الفارسية إلى التركية (شوف الجبروت!) ثم كتبت مقدمة إضافية ومهمة للترجمة. وفي سنة 1977 قام الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا بترجمة الترجمة الفارسية، ومقدمة الترجمة التركية (لشيمل) إلى العربية مرة أخرى، وقد نشرتها المطابع الأميرية.
المهم أن شيمل كتبت اسمها على الترجمة التركية هكذا (أناماري شيمل-تاري). في البداية ظننت أن (تاري) شريك لها في الترجمة، ولم أبحث الموضوع. وآنذاك كتب لي أستاذي المستشرق المعروف شتيفان فيلد أنه سيزور القاهرة، ويريد أن يراني، فكتبت له رقم تليفوني حتى يتصل بي عندما يصل، وهذا ما حدث. وعندما ذهبت للقائه في فندق ماريوت في الزمالك تحدثنا طويلاً في المطعم وفي حديقة الفندق، وخلال الحديث ذكرت له ملاحظتي على اسم شيمل على غلاف الترجمة التركية. وشتيفان فيلد تلميذ قديم لشيمل، وقد شغل الكرسي الذي شغلته في جامعة بون بعد ذهابها إلى جامعة هارفارد. وهو الذي قام بتأبينها، وكتب سيرتها لموسوعة التراجم الألمانية، المهم أنه يعرفها أفضل من أي شخص آخر، فكانت المفاجأة أنه قال لي إنها إبان إقامتها في تركيا (أستاذة في كلية اللاهوت) تزوجت لمدة سنتين من مهندس تركي اسمه (عثمان تاري)، ولذلك أضافت اسمه إلى اسمها، ثم حذفته بعد الطلاق! "والله انبسطت كثيراً أنها تزوجت ولو لمرة"، وتمنيت لو أنهما أنجبا أيضاً، ولكن لم يحدث هذا للأسف! طبعاً لم أعرف سر الطلاق، ولم أُرد، لذا لم أسأل، وفيما بعد بحثت عن صورة لهما معاً، ولكنني لم أجد، حتى الآن على الأقل، ولعل الأيام تسعفنا بواحدة.
وفيما بعد طالعت ترجمة الترجمتين للدكتور الدسوقي شتا، فأعجبني فيها أنه نسجها على منوال عصر مؤلفها الآمدي، وقد ساعده على هذا ما بقي من النقول العربية عن الأصل العربي المفقود. ورغم ذلك -وهذا ذنب الآمدي- افتقدت في الكتاب أهم نص لابن خفيف، وهو النص الذي يحكي فيه عن لقائه الأول بشيخه أبي الحسن الأشعري. ورغم أن النص مليء بالسجع إلا أن له وقعاً سينمائياً عجيباً. والحمد لله أن النص موجود بكامله في الجزء الثالث من "طبقات الشافعية الكبرى" لتاج الدين السبكي، الذي يقول في أوله إنه نقله عن ضياء الدين الرازي (والد فخر الدين الرازي)، ولأن النص طويل جداً سأحاول تلخيصه هنا.
عندما كان ابن خفيف شاباً يطلب العلم سمع كثيراً وهو في شيراز عن علم الأشعري وفضله، فتمنى لو تتلمذ عليه، فلما عزم أن يسمع منه ترك شيراز وقصد البصرة، التي انبهر بضخامتها وتطورها، ولأنه لا يعرف الأشعري أخذ يسأل عنه وأين يجده، وفي إحدى المرات دلّه البعض على مجموعة من الشيوخ تسير، فذهب إليهم وسألهم عنه، فأجابه شيخ منهم كما قال ابن خفيف "بِلِسَان ذلق وَوجه طلق: مَا الذي مِنْهُ تُرِيد؟"، فقال ابن خفيف: قد بلغني ذكرُه فتُقت أَن أَلْقَاهُ لأتعلم منه، فلما رأى الشيخ حاله قال له: "ابتكر إِلى مَوضِع قدمي هاتين غَداً".
وفي الصباح الباكر وجد الشيخ ينتظره في المكان المحدد ويبادره بالسلام، ثم استدار الشيخ وسار فتبعه ابن خفيف، وهو لا يعرف الشيخ من يكون ولا إلى أين سيذهب؟!
وبعد فترة دخل الشيخ دار بعض وجوه البصرة، وفيها قد حضر جماعة للمناظرة، فلما رآهُ الناس كما يصف ابن خفيف "تسارعوا إلى القيام وتلقوه بالترحاب، وبالغوا بالسَّلام، وما يليقُ به منَ الإِكْرَام، ثمَّ عظّموه، وإلى الصَّدْر قدَّموه، وأحاطوا به إحاطةَ الهالةِ بالقمر، والأكمامِ بالثمر، ثمَّ أَخذ الخِصَام يتجاذبون في المناظرة أطرَاف الكلام، وكنت أنظر من بعيد مُتكئاً".
ثم يصف ابن خفيف شيخه الذي لا يعرفه أثناء المناظرة فيقول: "كان إِذا أوجز أعجز، وإذا أسهب أذهب، فَلم يدع مشكلةً إلَّا أزالها، ولا معضلةً إِلَّا أزاحها، ولا فساداً إلَّا أصلحه، ولا عناداً إِلَّا زحزحه، حتى تبيّن الحي من اللي، والرشد من الغي، ورفل الحق في أذياله، واعتدل باعتداله. قلت لبعض الحاضرين من المناظرين: من هذا الذي آثر اختلاب القلوب ونظم على هذا الأسلوب، الذي لم يُنسج على منواله، ولم تسمح قريحة بمِثالِه؟ أجابني وقال: أبو الحسن الأشعري"!
وعندها رأى ابن خفيف أن الأشعري يهم بالخروج قال: "فتبعته مقتفياً كخدمه، ومنتهجاً مواطئ قدمه، فالتفتَ إليَّ وقال: يا فتى كيف وجدتَ أبا الحسن حين أفتى؟ قال: فهرولت لالتزام قدّه واستلام يده".
وبعد كلام طويل قال ابن خفيف: "فلَمَّا رأيتُ مخبره بعد أن سَمِعتُ خبرَه تيقّنت أَنه قد جاوز الخبر الخبر، وأن مقالته تبر، وما دونه صفر، فتعلقت بأهدابه ولَبِثت معه برهة أستفيد منه في كل يوم نزهة، وأدرأ عن نفسي للمعتزلة شُبهة، ثمَّ ألفيته مع علو درجته، وتفاقم مرتبته كان [يقتات] من كسب يده، من اتخاذ تجارة للعقاقير معيشة، والاكتفاء بهَا عيشة، اتقاء الشُّبُهات، رضا بالكفاف، وإيثاراً للعفاف".
ومنذ أن قرأت هذا النص المسجوع في "طبقات الشافعية الكبرى" وأنا ابتسم وأقول لنفسي ماذا يمكن أن يحدث الآن لو وجدنا الأصل العربي وتم تحقيقه! بالتأكيد سيكون الأمر موضعاً لمقارنات طريفة بين الأصل والترجمات المختلفة، خاصة العربية الأخيرة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.