انطلقت في الأيام الماضية مواكب الأفراح في معظم مدن وقرى الأردن، احتفالاً بتخرّج أفواج جديدة من الجامعات الأردنية بمختلف الدرجات العملية، وهي أفراح مستحقة، سواء للخريجين أو للأهالي، بعد سنوات من الجهد والبذل، بحثاً عن مستقبل أفضل، ولكن هل فعلاً ينتظرهم مستقبل أفضل؟
بكل الأحوال، وبعيداً عن طقوس مواكب الأفراح التي يرافقها العديد من التجاوزات في الشوارع، والتي تُشكل خطورة على حياة المواطنين، فقد أصبح السوق الأردني مكتظاً بحمَلة الشهادات العلمية بمختلف درجاتها، ومن كلا الجنسين، ولم يعد يستوعب كل أولئك الخريجين، ورغم ذلك فإن الإقبال على التعليم في الأردن متزايد، وهذه ثقافة مجتمعية إيجابية، ويتزامن ذلك مع غياب برامج حكومية حقيقية في استحداث فرص العمل، وإن كان هناك بين الحين والآخر بعضُ البرامج والمقترحات فإن القليل منها قد أثمر.
على مدار أكثر من خمسة عشر عاماً على مقاعد الدراسة، تستثمر الأسرة الأردنية الكثير من الجهد والمال في سبيل حصول أبنائها على الشهادة الجامعية، من منطلق أنها الدرجة الأولى في سلم النجاح، وتمر تلك السنوات بالكثير من التفاصيل الشاقة، ويتخللها تزايُد الطموحات والأحلام، بناءً على تطور المستوى العلمي للطالب، فهذا يرى نفسه طبيباً، وذلك يجد الهندسة تليق بمستقبله، وهكذا.
وحسب ما يُوثِّق من عاش في منتصف القرن الماضي، فقد كان الحصول على شهادة الثانوية العامة في الأردن كفيلاً بمنح فرصة عمل في القطاعين التعليمي والإداري، وذلك لعدة أسباب، قد يكون من أبرزها قلة المتعلمين وندرة المدارس والجامعات وبُعد المسافات، وكذلك قلة عدد سكان المملكة.
وبمرور الوقت تطوَّر التعليم في الأردن، وازدادت أعداد المدارس والجامعات، وسُمِحَ بالاستثمار في المجال التعليمي، وانتشرت المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة، وهذا يُحسب إيجابياً للحكومات المتعاقبة، ولكن تلك الجهود لم تترافق مع جهود أخرى تتعلق بنظام استحداث فرص العمل، من خلال تطوير الاقتصاد وتوفير بيئة حاضنة للاستثمار.
وهكذا، يوماً بعد يوم تزايدت البطالة بين حملة الشهادات الجامعية، وأحد الحلول المؤقتة التي مارستها بعض الحكومات وفق نظام المحسوبية والواسطة، بعيداً عن البحث العلمي والدراسات الاستراتيجية، ما يمكن تسميته "البطالة المُقَنَّعة"، وهي التي أسهمت في تكديس الكوادر من دون أن تشكل إضافة.
العديد من الشباب والشابات المتعلمين كانوا مرنين للغاية، ولم ينتظروا في طوابير الوظائف، بل حاولوا ابتكار مشاريع بسيطة، وقد نجح البعض منهم، ولكن سوء الوضع الاقتصادي الداخلي لم يوفر مساحات مناسبة لنجاح الكثير منهم، وسقط بعضهم في غياهب القروض.
المشكلة محبطة للغاية، وقد تصل لحد الخطورة على المجتمع بمرور الوقت، ولذلك ومن أجل مستقبل صحيح للوطن، يجب البحث عن حلول تتناسب مع تطورات الحياة ومتطلبات الأسواق، واستمرار الصمت على هذه المشكلة ستكون عواقبه وخيمة.
لا شك أن العديد من الحكومات السابقة قد فشلت في إدارة ملفات الاقتصاد، والشاهد هنا ما نتحدث عنه في هذه السطور على سبيل المثال من إحباط أجيال كاملة تنتظر دورها في طوابير الأمل (ديوان الخدمة المدنية)، وذلك الفشل قد يكون في استراتيجياتها، أو في فساد شخوصها وليس في عدم وجود حلول ناجحة.
"الإنسان أغلى ما نملك"، وهذه المقولة التاريخية للراحل الحسين بن طلال يمكن أن تكون الأساس في الحلول المرحلية، ففي طوابير الأمل توجد نوعية مميزة من الكفاءات الأردنية، وإحدى طرق الاستثمار في هذه الكفاءات تكون من خلال تطوير قدراتهم النظرية وربطها بسوق العمل، من خلال برامح تدريب مدفوعة الأجر لمدة تصل إلى سنتين أو يزيد.
استراتيجية التدريب للخريج موجودة فعلاً في بعض النقابات المهنية، ولكن بشكلها الحالي هي نظام هش جداً، لأن غالبية الخريجين لا يجدون شركات أو مواقع عمل توفر لهم فرصة التدريب، ولذلك ما نقترحه هنا استراتيجية حكومية بالتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية، بحيث يتم تخصيص ميزانيات محددة لشمول جميع الخريجين من مختلف الكليات، بنظام تدريب وتعويض القطاع الخاص من خلال منحه بعض الامتيازات أو الإعفاءات، التي تأخذ بعين الاعتبار التخطيط بعيد المدى للموضوع، وهو تطوير الكفاءات الذي سينعكس إيجاباً على الوطن.
مؤخراً تم تشكيل "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية"، وهي لجنة تشكلت لغاية واضحة من مُسماها، وكما تحدثنا فإن أحد أبرز هموم المواطن الأردني هي الزيادة المفرطة للبطالة في صفوف حمَلة الشهادات الجامعية، ولذلك فإن أي مخرجات سياسية للّجنة بدون وجود برامج واستراتيجيات اقتصادية تنتج عنها حلول عملية تعالج مشكلة خريجي الجامعات تعتبر فشلاً جديداً للمنظومة السياسية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.